عرض مشاركة واحدة

عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.64 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 12  
كاتب الموضوع : الصديق الامام محمد الحسن المنتدى : المنتدى العام
افتراضي
قديم بتاريخ : 03-07-2012 الساعة : 08:20 AM

خمسينية وردي .. بقلم: د. خالد محمد فرح
[email protected]

أرجو أن أعزي بادء ذي بدء ، أسرة الفنان الراحل العظيم الأستاذ محمد عثمان وردي الذي رحل عن دنيانا الفانية في الثامن عشر من شهر فبراير المنصرم 2012 م ،
وهو – بالمناسبة - نفس تاريخ رحيل أديبنا الفذ الطيب صالح ، سوى أن ذلك حدث في عام 2009 م. فالتعازي الحارة نتقدم بها لكافة محبي وردي ومعجبي فنه داخل السودان وخارجه.

لقد شق نعي وردي على كل فرد من أفراد الشعب السوداني بصفة خاصة ، لأنه كان بحق رمزاً بل إيقونة من إيقونات الفن والإبداع الخلاق والأصيل الذي ظل يصوغ ويثري الوجدان داخل السودان خصوصاً، وعلى نطاق واسع في إفريقيا بصفة عامة ، على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان.
وقد أسال رحيل وردي سوى الدموع الغزار ، مداداً كثيرا من قبل العشرات من الكتاب والصحفيين والشعراء المؤبنين له ،
وما يزال هنالك الكثير الذي يمكن أن يقال عن وردي وشخصيته العبقرية وفنه في مقبل السنين والأيام.
==
وقد كنت نشرت في شهر يوليو من عام 2007 م ، مقالاً بعنوان: " مع خمسينية وردي " ،
أحببت أن أشارك بها في هذا الجهد التوثيقي والتعريفي بفنانا العظيم الذي جاء يوم شكره كما نقول في كلامنا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وكنت قد ذكرت لنجليه: عبد الوهاب وحافظ أمر ذلك المقال القديم وأنا أعزيهما في ليلة التأبين بمنزل الأسرة بالخرطوم.
وهانذا أستميح القراء الكرام عذراً عن إعادة نشر هذا المقال مجدداً ، تعميما للفائدة:
======
أرجو أن أتقدم في البداية بعاطر التهاني والتبريكات ، مقرونةً بالأمنيات الطيبة للفنان العملاق الأستاذ محمد وردي بمناسبة اليوبيل الذهبي لانطلاق مسيرته الفنية الرسمية من خلال أثير إذاعة أم درمان.
والتهنئة موصولة من بعد لمعجبي الفنان وردي خاصةً ، ولكافة أفراد الشعب السوداني الذي ظل وردي يطربه ويشجيه ويعمر وجدانه بكل شائق وبديع من الألحان والأغنيات طوال نصف قرن كامل من عمره الفني المديد بإذن الله.

إنني وأبناء جيلي من مواليد خواتيم الخمسينيات ومطالع الستينيات من القرن الماضي بصفة خاصة ، قد تفتحت أعيننا وآذاننا على غناء محمد وردي ،
وما تزال تتأوبنا بعض ومضات من ذكريات طفولتنا وصبانا الغض ، حاملةً مرائي ساحرة من مباهج ذلك الزمان الندي المترع بالفن والجمال وراحة البال في السودان ،
والتي كان غناء محمد وردي إحدى فواكهها الشهية.

أذكر إذ كنا صغاراً نرافق أمهاتنا إلى حيث كن يشاركن في مناسبات أفراح الأقارب والجيران والأصدقاء ،
ونحن نتشبث بأثوابهن بكل ما كنا نملك من قوة ، وهن يشددننا من أيادينا خشية التيه و الزحام ،
والسباتة حارة والمجال مضمَّر كما قال خليل أفندي فرح ، والبنيات في ضرام الدلاليك كما قال محمد المهدي المجذوب ،
وقد سرحن شعورهن " بوقجيه " ، ولبسن فساتين " كلوش " وانتعلن الجزمات " الكبس " ،
وهن يرقصن شيئاً كان يسمى " تويستي بالجنبات "
على أنغام أغنية وردي:
" لو بالصد أبيتيني .. ولو بالنار كويتيني ..
أنا لا ما بنسامك .. أنا لا... ما بنساك ".

وصفة التويستي بالجنبات يا هذا ، هو أنّ الواحدة منهن كانت تؤرجح جسدها يمنة ويسرة في حركة إيقاعية منتظمة ،
مميلة ثقلها بالاستناد تارة على القدم اليمنى ، وتارة أخرى على القدم اليسرى ، في حركة بندولية ،
في الوقت الذي تضع فيه مرفق إحدى يديها ( كوعها ) على أصابع يدها الأخرى مجتمعة في شكل قمع أو كم زهرة ، وبالتناوب مع ذات الإيقاع.

ثم لما كبرنا قليلاً وأدخلنا المدرسة، كانت ألحان أغاني وردي من أشهر ما يختاره المدرسون والتلاميذ كذلك لتلحين المحفوظات من النصوص الشعرية. ومما أذكره من ذلك محفوظة:

ألا طيري .. ألا طيري
وغنِّي يا عصافيري ...

التي لحناها على نغمة أغنية: " لو بالصد أبيتيني " الآنفة الذكر.
وقد كان هذا اللحن منتشراً جدا على نطاق واسع في شتى أنحاء السودان. وآية ذلك أن السفير الأديب الأستاذ خضر هرون قد ذكر في مذكراته التي نشر طرفا منها قبل نحو عامين من الآن ، أنهم في مدرسة: " السجانة الأولية " بالخرطوم ، قد لحنوا محفوظة " هيا للمرعى يا غنمي .. سيري واستمعي للنغم " على نغمة: " لو بالصد أبيتيني " هذه. فهل كان وردي – وقد كان مدرساً أصلاً – هو أول من اختار هذا اللحن لهاتين المحفوظتين ؟.

وصوَّر لي خيالي الطفل أول عهدي بنشيد: " أصبح الصبح " لمحمد وردي ، الذي صاغه شعراً الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري ، صوَّر لي أنَّ " النور " المذكور في قول الشاعر: أصبح الصبح وها نحن مع " النور " التقينا .. الخ ، صوَّره لي على أنه " النور " ود عمنا خليل النور ، الذي كان حينها طفلا يصغرني بعام أو عامين ، وكان أهله جيراناً لنا ، وكان والده – عليه رحمة الله – زميلاً لوالدي في مهنة التعليم.

ثم إنه تبين لي من بعد ، وقد توسعت مداركي ، ونضجت ذائقتي الموسيقية شيئاً ما ، أن نشيد: " أصبح الصبح " سيستمر عملاً موسيقياً محورياً في مسيرة محمد وردي ، وسيتردد صداه في أعمال أخرى لاحقة.

فقد لاحظت أنَّ ورديّاً قد أدخل على سبيل المثال ، لازمة موسيقية أو قطعة (morceau) من موسيقى نشيد أصبح الصبح في نشيد آخر لحنه وردي وأداه بعد عدة سنوات من تاريخ أدائه لذلك النشيد ، ألا وهو نشيد: " في حكاياتنا مايو " للأستاذ محجوب شريف ، وذلك حين يقول:

وتماماً أصبح الصبحُ .. على الشعب تماما

والقطعة المعنية تجيء مباشرة بعد قوله " الصبحُ " ، وقد استعارها من موسيقى نشيده الأول. والراجح هو أن تكون قد ذكرته بها في لا وعيه ، ( وربما في وعيه ) ، عبارة " أصبح الصبح " هذه.ولو كنت أعرف الكتابة الموسيقية لرسمت للقارئ المتخصص تلك النغمة المستعارة.
وبالمناسبة ، فإن " مايو " قد حظيت بأناشيد كانت غاية في الروعة من حيث الموسيقى والألحان والأداء ،
منها أناشيد وردي في بداية ذلك العهد ، وسيد خليفة ، والثنائي الوطني ، وإبراهيم عوض: " يا ريس براك شفتَ .. أروع واعظم استفتا " ،
و" غالية يا ثورة غالية علينا " لعبد العزيز محمد داؤود وألحان برعي محمد دفع الله ، وختمها الشاعر الفريق جعفر فضل المولى وأداء المجموعة بنشيد: " على الأعداء الله أكبر .. يا جعفرْ " ،
حتى قضى الله أمراً كان مفعولا.

هذا ، ووردي من عباقرة التلحين في السودان بلا أدنى ريب. وقد كنت قرأت رأياً للإذاعي المخضرم الأستاذ محمود أبو العزائم ، مفاده أنَّ أعظم ملحن عرفه السودان هو " كرومة " ، يليه مباشرة " محمد وردي " ، وأظن ذلك صحيحا.

وتأكدت لي مرجعية ومركزية لحن " أصبح الصبح " في مشروع محمد وردي الموسيقي أكثر عندما رأيته وقد أدخل شيئاً من ذلك اللحن في الموسيقى المصاحبة لنص النشيد الرائع الذي ألفه الفيتوري أيضاً ،
ولحنه وأدَّاه وردي بعد انتفاضة أبريل 1985 م ، وذلك هو النشيد الذي يقول فيه الشاعر:
في زمن الغربة والارتحالْ
تأخذني منك وتعدو الظلال
وانت عشقي حيث لا عشق يا سودان
إلاَّ النسور الجبالْ
* * *
فدىً لعينيك الدماء التي
خطَّتْ على الأرض
سطور النضالْ ...
* * *
يا شرفة التاريخ
يا رايةً منسوجةً
من شموخ النساء
وكبرياء الرجالْ ... الخ

هذا هو والله السحر الحلال. ولما كان الشيء بالشيء يذكر ، فإنَّ للفيتوري قصيدة أخرى جيدة من هذا الإيقاع وهذا البحر ذاته ، ألا وهو بحر " السريع " من البحور الخليلية ،
نظمها في حب العراق وتمجيده في ثمانينيات القرن الماضي ، وألقاها في مهرجان المربد الشعري ، وهي التي مطلعها:

غائبٌ والعيونُ عليك اشتياقْ هائمٌ خمركَ الذكريات العتاقْ

وفيها أيضاً:
إنما يستردُ البلادَ الرجالُ الأسودُ وليس الرجال النياقْ

وفيها – كما لا يخفى – استشراف كشفي لواقع الحال في ذلك البلد المنكوب الآن.

وعوداً إلى موسيقى " أصبح الصبح " ، فقد استعاد الفيتوري هذه " الموتيفة " الشعرية مرة أخرى في قصيدته: " في زمن الغربة والارتحال " ، وذلك حين يقول:

أصبح الصبح كأنَّ الزمنَ الماضي على الماء نقوشْ
فبمجرد انتهاء وردي من نطق كلمة " نقوش " هذه ، تصدح الموسيقى بذات " القطعة " الأثيرة من نشيد: " أصبح الصبح " القديم ، فتأمّلْ !.

هذا ، ولم يقتصر التلحين على انغام وردي على محفوظات تلاميذ المدارس الإبتدائية مثل: " ألا طيري ألا طيري " و " هيا للمرعى يا غنمي " الخ فحسب ،
بل تعدى ذلك إلى تلحين المدائح النبوية أيضا. ذلك بأنَّ للشيخ عبد الرحيم البرعي الكردفاني رحمه الله مدحة نظمها على لحن أغنية وردي: " بيني وبينك والأيام " ،
وهي مدحة: " ربي وربك الرحمن .. والمختار نبينا ... بالإيمان والإسلام مرسول رحمة لينا " ، وقد جارى بها الشيخ لحن وردي لهذه الأغنية بكل تفاصيله.

إنَّ محمد وردي في حقيقة الأمر ، فنان شامل تصعب الإحاطة بمختلف ملامح تراثه الضخم ، وسبر أغواره في مثل هذه العجالة.
ولا أظن أن هنالك مطرباً سودانياً قد تميز تراثه بهذا الثراء وهذا التنوع الفريد ، مع الافتنان والإجادة التي تحلق بعيدا في سماء النبوغ والعبقرية والفن الرفيع: غناء عاطفي باللغتين الدارجة والفصحى ، أناشيد وطنية وثورية ، غناء باللغة النوبية ، أغاني تراثية بالعربية والنوبية ، تأليف موسيقي ، تلحين أغنيات لنفسه ولغيره من المطربين ، مثل أغنية " واللهْ مشتاقين " من كلمات إسماعيل حسن وأداء عثمان مصطفى التي يشتم منها النفس الوردي بصورة واضحة ، وكذلك أغنية " أيامك .. أيامك باسمة يا قلبي " من أداء المطرب الكبير: صلاح بن البادية ، وأخيراً مديح نبوي: " قصيدة: مدينتك الهدى والنور للشاعر محمد المكي إبراهيم مثالاً".
ويبدو أن محمد وردي قد كان يعالج النظم الشعري أيضاً ، فقد سمعت الموسيقار المطبوع الأستاذ بشير عباس وهو يقول في لقاء تلفزيوني أجري معه قبل عام أو يزيد قليلا ، إن الكلمات المصاحبة لمقطوعته الموسيقية المعروفة " يا ترى حجبوك من عيني .. يا ترى .. أنا مش قدر حبك ولاّ أيه .. " هي من تأليف وردي.
هذا ، وبشير عباس من عشاق وردي بلا ريب ، شأنه في ذلك شأن ملايين السودانيين. ويقال إن " النقرشة " بالعود التي تأتي في مطلع أغنية " الحبيب العائد " هي من عزف بشير عباس. سمعت ذلك من الأستاذ: عوض بابكر في حديث إذاعي له ، ولا ينبئك مثل خبير.

وعلى ذكر الغناء التراثي ، أو ما درج على تسميته بأغاني: " الربوع " بصفة خاصة ، فإنني على كثرة ما استمعت إلى الأغنية الشعبية النوبية الشهيرة: " أسمر اللونا " من عدة مطربين ، إلاَّ أنني لم أجد مطلقاً من يقارب أداء محمد وردي لهذه الأغنية بعذوبة صوته ، وصدق أحاسيسه ، وحرارة وجده وهو يؤدي هذه الأغنية مما يجعل أي مستمع يتجاوب معها ، حتى ولو كان من بين الكثيرين من أمثالي ممن لا يفقهون اللغة النوبية ، ولا يفهمون مما يقال في تلك الأغنية ، إلا ما يتسقط من بعض العبارات المقترضة من عربية أهل السودان الدارجية مثل قول الفنان: " قميص نص كمْ " الخ ...

كان الأديب الراحل السفير عبد الهادي الصديق رحمه الله ، شديد الإعجاب بغناء محمد وردي ، وكنت كثيراً ما أتناقش معه حول قضايا الأدب والشعر والغناء والموسيقى ، ولقد كان فيها جميعاً بحراً زاخراً بالمعارف والفنون. غير أنّ المرحوم عبد الهادي الصديق كان يرى – وحب الناس مذاهب كما نقول – أن أعظم أغنية لوردي هي نص الشاعر الراحل عمر الطيب الدوش: " بناديها ".
وواسطة عقدها اللحني في نظره هي عندما يرفع وردي عقيرته قائلاً:
" بتطلعي إنت من غابات .. ومن وديان .. ومني أنا.. ومن صحية جروف النيل مع الموجة الصباحية " الخ

أما انا فكنت أقول له ، وما أزال أعتقد ذلك ، أنَّ أعظم أغنيات وردي ، وعسى أن تكون واحدة من أعظم الأغنيات السودانية والعربية المعاصرة على وجه العموم شعراً ، وتلحيناً وموسيقى وأداء هي أغنية: " الحبيب العائد " أو " عاد الحبيب " للشاعر الأستاذ صديق مدثر، على النحو الذي هي مسجلة به بالإذاعة وليس على أي نحو آخر:

عاد الحبيبُ فعادت روحي وعاد شبابي
يا شوقُ مالك دعني أما كفاك عذابي
لقد شربتَ دموعي أما سئمتَ شرابي ؟؟؟

وأفضل الأوقات عندي للاستماع إلى هذه الأغنية هي في مثل أمسيات أيامنا الخريفية هذه ،
وخصوصاً قبيل انهمار المطر ، والجو ملبد بالغيوم ، والنسيم يسري عليلاً ، والبرق يسطع في ذات اللحظة التي يصدح فيها وردي ملء صدره:

عاد الحبيب فعادت إليّ أحلى الليالي
ذكراه تقدح ناراً ووجده في اشتعال

هنالك حيث يختلط انقداح نار ذكرى الحبيب الذي كان غائبا ،
واشتعال الوجد في قلب محبه ،
ويتماهى مع انقداح البرق ولمعانه ،
مما يهيج الذكرى والشوق والحنين ، ويجعل العاشق المتيَّم " يبكي ويتمختَنْ " والله أعلم ،
وعاش محمد وردي فنان إفريقيا الأول.
===============
منقول


رد مع اقتباس