.::||[ آخر المشاركات ]||::.
كتب صديق عبد الهادي: بعض قضايا... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 10164 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 8973 ]       »     بمزيد من الحزن والأسى تنعى منت... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4279 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 3966 ]       »     كتب صديق عبد الهادي: وما الذي ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 12860 ]       »     من الواتساب: أقوال منسوبة للشي... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4962 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4447 ]       »     الراكوبة: لجنة للتحقيق في بيع ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 2 - عدد المشاهدات : 9408 ]       »     الراكوبة: تكوين لجنة تمهيدية ل... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 6933 ]       »     الراكوبة: محافظ مشروع الجزيرة ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 2 - عدد المشاهدات : 8774 ]       »    



الإهداءات

العودة   منتديات وادي شعير الأقسام العامة منتدى السياسة والفكر والأدب

إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.65 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
قديم بتاريخ : 10-18-2014 الساعة : 09:50 AM

دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان (1) ..
(Dairat al Mahdi: Money, Faith and Politics in Sudan 1)
Fergus Nicoll فيرقس نيكول
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
[email protected]
==
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لمحاضرة ألقاها الكاتب البريطاني والصحفي المستقل فيرقس نيكول بجامعة درام في 20/6/ 2013م ضمن السلسلة المسماة "محاضرات سير وليام ليوس التذكارية". وعمل السيد نيكول كمدرس للغة الإنجليزية بثانويات السودان في ثمانينات القرن الماضي، ثم عمل بهيئة الإذاعة البريطانية ويعمل الآن بالقسم الإنجليزي بقناة الجزيرة. وللمؤلف كتاب بالإنجليزية عن المهدي وحياته، نشر بعنوان: " سيف النبي: مهدي السودان" عام 2009م مترجما عن مركز عبد الكريم ميرغني.
المترجم
********
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

مقدمة (Introduction)
تمثل قصة "دائرة المهدي" مثلثا للسلطة أضلاعه هي الدين والسياسة والمال. وتأثرت مسيرة تلك المؤسسة خلال سنوات القرن العشرين الأولي المضطربة بما وقع من قبل، وكذلك بحروب المهدية التي لم تبرح الذاكرة بعد، وبنموها الهائل وتأثيرها السياسي على فترة ما قبل استقلال السودان في 1956م، والذي ما تزال آثاره باقية وملموسة حتى اليوم.
وكانت "دائرة المهدي" هي أول شركة زراعية في السودان كانت كل إدارتها العليا وموظفيها وعمالها هم من السودانيين. ونمت تلك الشركة فلم تعد تزرع القطن فقط، بل امتد نشاطها ليشمل الإنتاج الصناعي والثروة الحيوانية والعقارات والصحافة، إذ كانت تمتلك صحيفة يومية. وفوق كل هذا وذاك، فقد كان إرث تلك الدائرة إرثا اجتماعيا وسياسيا. وكما كتب الصادق عبد الرحمن أزرق عام 2000م فإن ما كانت تميز "دائرة المهدي" هي "...طبيعة الظروف التي أدت لإنشائها، ودورها في أول تعددية سياسية في البلاد...وكمركز مالي لتمويل أنشطة الأنصار وحزب الأمة".
وتستخدم كلمة دائرة (daira) في اللغة العربية استخدامات متنوعة وبمعان مختلفة ومرونة مفيدة. ففي السياسة هنالك "الدائرة الانتخابية"، وفي الصوفية هنالك "دائرة الذكر"، وعند رجال المال والأعمال تستخدم كلمة "دائرة" بمعنى "شركة". وفي حالة "دائرة المهدي" فهنالك التداخل بين خليط من قوة رأس المال و"العضلات المالية" والالتزام الروحي والوحدة السياسية، والذي أنتج قوة عظيمة قاومت الحكم الاستعماري والحكومات العسكرية الوطنية، ونالت الأغلبية في الانتخابات الديمقراطية. ويربط الجزء الثاني من الاسم "دائرة المهدي" تلك القوة الثلاثية بعشيرة المهدي، والذي ارتفع اسمه من الشيخ محمد أحمد عبد الله ليغدو "المهدي المنتظر"، والذي سيوحد كل المسلمين في كافة أصقاع العالم قبل ظهور النبي عيسى وقيام الساعة.
وأعلن القائد الديني المهدي الجهاد في عام 1881م، وبدأ بتعبئة القبائل لطرد المحتلين المصريين من البلاد، ونجح في ذلك بعد أربعة أعوام من بدء حملته الجهادية. وبإعلانه نفسه مهديا، يكون الرجل قد عد نفسه خليفة لرسول الله، وبالتالي يكون قد وضع نفسه فوق كل التسلسل الهرمي للخلفاء العثمانيين، وكذلك فوق علماء الدين الذين كانوا يحظون برعاية رسمية من الدولة.
ودفعت عائلة المهدي أثمانا باهظة نتيجة لدعوته، فقد قتل كثير من أفراد تلك العائلة في سنوات الجهاد الأولي في بواكير ثمانينيات القرن التاسع عشر، ثم في الحروب التي اندلعت في أخريات تسعينيات القرن التاسع عشر، وكذلك عند غزو بريطانيا للسودان، ثم في حوادث العنف السياسي التي وقعت بعد الاستقلال. وقتل أخوة المهدي الثلاث محمد وحامد وعبد الله، وكذلك خلفائه الثلاث. وقتل في المعارك أو أعدم أو مات من المرض في السجن من أولاده محمد والبشرى والفاضل والصديق والطيب والطاهر. ولم يبق له غير ولدين هما علي وعبد الرحمن، وظل السؤال المهم عمن هو الأحق بوراثة لقب "الإمام" لأنصار المهدي باقيا.
سنوات عبد الرحمن المهدي الباكرة (Abd-al- Rahman al Mahdi’s early year)
بدأت قصة "دائرة المهدي" قبل 34 عاما من تاريخ الترخيص الرسمي بقيامها، عندما كانت بريطانيا قد أحكمت قبضتها على وسط السودان وشرقه. ففي أغسطس من عام 1899م كان عبد الرحمن (أصغر أبناء المهدي والذي ولد بعد موته) يقيم مع أخويه البشرى والفاضل في قرية الشكابة بالقرب من وادي مدني. واعترضت القوات البريطانية المحتلة ما قالت إنه محاولة للقيام بهجوم معاكس عليها من قبل الأنصار، وتم بعد ذلك إعدام البشرى والفاضل رميا بالرصاص بعد محاكمة عسكرية إيجازية بتهمة التحريض على المقاومة. وأصيب عبد الرحمن في ذلك الهجوم برصاصة في كتفه إلا أنه سرعان ما شفي منها، وبقي في كنف محمد طه الشنقيطي في جزيرة الفيل قرب الشكابة حيث تلقى تعليما تقليديا. وقام البريطانيون بإرسال كل من بقي على قيد الحياة من أقربائه الذكور (ومنهم أخيه الوحيد علي) إلى سجن وادي حلفا في أقصى شمال السودان، أو سجن رشيد في دلتا مصر، حيث مات أغلبهم بسبب إهمال الحكومة لرعايتهم، أو بسبب علل مختلفة منها السل.
وفي عام 1908م أمرت السلطات الاستعمارية البريطانية عبد الرحمن، وهو في سن المراهقة، بالمجيء إلى أمدرمان تحت رقابة السلطات الأمنية والمخابراتية اللصيقة. وبالفعل أتى عبد الرحمن لأمدرمان في معية عدد من أفراد عائلته الممتدة لا يقل عددهم عن 72 فردا، منهم أرامل ويتامى أبيه، وأخوته وأعمامه، وأقرباء من كانوا قد أودعوا السجن من أهله. وصدر في ديسمبر من عام 1908م توجيه رسمي لريتشارد مور المفتش البريطاني بالخرطوم لصرف 25 جنيها مصريا لبناء مجموعة بيوت صغيرة لعائلة عبد الرحمن الممتدة. وتولى شيخان من رجال الدين هما مفتي السودان شيخ الطيب أحمد هاشم ورئيس مجلس العلماء محمد البدوي رعاية عبد الرحمن المهدي، بغرض محاولة إرجاع الصبي الذي كان يمثل "الثورة الدينية" لحظيرة المؤسسة الاسلامية التقليدية.
وبقي عبد الرحمن ومن معه من أقاربه الكثر يعيشون عيشة الكفاف على القليل من الاعانات الرسمية التي كانت تمنحها لهم الحكومة البريطانية. وفي أكتوبر من عام 1909م أخذ الباشمفتش المحلي روبن بيلي أحد المفتشين البريطانيين الذين تعينوا حديثا في خدمة الحكومة السودانية في جولة على مدينة أمدرمان. كتب روبن بيلي لاحقا عن تلك الجولة ما نصه: " قادني الباشمفتش في أزقة ضيقة بالغة القذارة إلى كوخ طيني بائس، وقام بطرق بابه بالعصا التي كان يهش بها على فرسه. فخرج من الكوخ صبي مذعن مرتديا ملابس متسخة. إنه ولد المهدي. لم يكن للصبي أي مصدر للدخل وكان يعيش على منحة إنسانية لا تتعدى جنيهات قليلة كل شهر...".
وفي غضون سنوات العقد الأول من القرن العشرين كانت تلك هي حالة غالب من بقي على قيد الحياة من أتباع المهدي، الذين حلت رابطتهم، وفرق شملهم، ومنعوا من أن يعيدوا تكوين جماعتهم. غير أنه كان هنالك أمران محددان بسببهما عمد البريطانيون على إبقاء شخص كعبد الرحمن المهدي في حالة شديدة من العوز. وكان السبب الأول شخصيا. فقد كان ريدولف سلاطين مرتزقا يعمل لحساب البريطانيين والأمريكيين في جيش الاحتلال المصري. وهزمه جيش المهدي وهو حاكم لدارفور في غرب السودان وأجبره على الاستقالة. وقضى أكثر من عقد كامل من الزمان بعد هزيمته في دارفور أسيرا في أمدرمان لدي المهدي ثم خليفته عبد الله. ثم فر بعد ذلك إلى مصر حيث كتب ونشر (بمساعدة ليست بالقليلة من المخابرات العسكرية البريطانية) قصة تراجيدية عن فظائع حكم الخليفة. وكان كتابه ذاك يعد "كتابا مقررا" على رجال القوات البريطانية والموظفين المدنيين في سنوات الاستعمار الباكرة.
ولما غزت بريطانيا السودان في 1899م عينت سلاطين في وظيفة "مفتش عام" (وهي وظيفة منفصلة عن قسم المخابرات)، فلم يدخر الرجل وقتا ولا وسعا في قمع كل من كانت له أدنى صلة بالإدارة التي أبقته مغلولا في الأسر لأكثر من عقد كامل. وجاء في أحد تقارير المخابرات أن سلاطين كان يعاني من "نوبات اكتئاب أسود" تنتابه بين الحين والآخر جعلته يخفق في اتخاذ القرارات الصحيحة، ويتخوف خوفا مرضيا من بعث المهدية من جديد، ويداوم على حث الحكومة على اجتثاث المهدية وأتباعها. وكتب مؤرخ سلاطين وكاتب سيرته ريتشارد هيل أن سياسة الحكومة تجاه أتباع المهدي كانت بالضرورة "قمعية"، ولكنه كان يصر أيضا على أن سلاطين لم يضطهد أحدا، مع صرامته في التعامل مع الجيل الجديد من أتباع المهدي، خاصة أبناء المهدي والخليفة.
وكانت إحدى مظاهر سياسة سلاطين القمعية هي إصراره على عدم ذكر كلمة "السيد" (الدالة على صلة بالعِتْرَة النبوية الشريفة، وبأنه خليفة والده سياسيا وروحيا) قبل اسم عبد الرحمن المهدي. وكان عبد الرحمن، وبحكم الأمر الواقع، على رأس عائلة المهدي، والممثل الحي الوحيد لطائفة دينية ذات قوة وتأثير، وهي كل ما بقي للمهدية من نفوذ (بعد هزيمة جيشها).
وكذلك حظر سلاطين "الراتب" (المكون من مجموعة من الآيات والأذكار المأثورة عن رسول الله وبعض الأدعية التي دعا بها بعض الأنبياء وأئمة الصوفية). وكانت "الراتب" سلاحا قويا وعاملا طائفيا ملزما عند المهدي، الذي كان قد قاد جهادا عسكريا واجتماعيا وروحيا. وكل هذا كان مما يخيف البريطانيين والمتعاونين معهم من صفوة علماء السودان من قوة ذلك "الراتب" المؤثرة. وظل “الراتب" محظورا في السنوات الأولى التي أعقبت الغزو البريطاني، وكان كل من يحتفظ بنسخة منه يعرض نفسه للمحاكمة، ويعد القانون تلاوته في جمع من الناس جريمة جنائية.
وعلى صعيد الحلفاء، فقد كان البريطانيون يثقون في رجال كالزعيمين الدينيين السيدين علي الميرغني والشريف يوسف الهندي. وكان الأخير شديد التأييد للحكومة البريطانية – المصرية، رغم أنه كان قد خدم المهدي وخليفته أيضا. بينما ظل الزعيم الختمي الميرغني محتفظا بولائه للاحتلال المصري السابق، وكان يقف دوما ضد المهدي وجهاده. ومعلوم أن الختمية كانوا من القلائل الذين رفضوا دعوة المهدي نفسه منذ قيامها، ولم يجدوا بالطبع سببا لتأييد طموحات ولده من بعده. وكما قال الجنرال كتشنر بعد عام من غزوه للسودان: "إن الواجب المفروض أمامنا جميعا الآن ... هو نيل ثقة الشعب... بأن نبقى لصيقين بجانب علية الأهالي في البلاد، وعن طريق هؤلاء يمكننا التأثير على كامل أفراد الشعب". أما عبد الرحمن المهدي، فقد عدته الحكومة في ذلك الوقت (كما ذكر المؤرخ ريتشارد هيل في كتابه عن سلاطين) " شخصا فقيرا لا أهمية له ... ولم تعره أدنى اهتمام".
ولقد وقعت بالفعل عدة محاولات للثورة ضد الحكم البريطاني في سنواته الأولى، غير أنها كانت كلها محاولات صغيرة ومحدودة ومعزولة. ورغم ذلك فقد كانت السلطات الاستعمارية تتحسب دوما لإمكانية قيام تمرد أو ثورة واسعة النطاق. وكانت أخطر تلك الثورات هي ما قاده علي عبد الكريم عام 1900م، وشريف محمد أمين في عام 1908م ومحمد سيد محمد في عام 1919م. ولا شك أن البريطانيين كانوا يدركون أن هنالك العشرات (وربما المئات أو الآلاف) من الناس الذين كانوا قد سمعوا دون ريب بدعوة المهدي في منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر، ولا يزالون على قيد الحياة. وكان المهدي قد اسماهم "الأنصار" تشبيها لهم بمن نصروا النبي محمد (في المدينة). وأسمى الذين أيدوه في مبتدأ دعوته وخدموا دعوته بإخلاص وتفان وتبعوه أينما تحرك بـ "المهاجرين" لتقليدهم الهجرة النبوية وهجرة خليفته المهدي. وسيأتي فيما بعد ذكر لهاتين الكلمتين في عالم ما عرف بـ "المهدية الجديدة".
بداية العمل بالزراعة في الجزيرة أبا (Farming begins at Jazira Aba)
تقع الجزيرة أبا على بعد نحو 150 ميلا جنوب الخرطوم. وكان تعد قلب الحركة المهدية في ثمانينيات القرن التاسع عشر والبلاد تحت الحكم الاستعماري، ولا تزال كذلك الآن. وعندما كان عبد الرحمن صغيرا، كانت بالجزيرة غابات كثيفة. وكانت أولى مظاهر تأكيده على استقلاليته من الحبس الذي فرضه عليه سلاطين في أمدرمان هو سفره للجزيرة أبا عندما سمحت له السلطات البريطانية بذلك (في عام 1906م) للإشراف على تنظيف مساحة من تلك الغابات الكثيفة كانت قد منحت له قبل عامين، وتحضيرها للزراعة.
وكتب السيد الصادق المهدي مؤرخا لتلك الزيارة في كتيبه "الجزيرة أبا ودورها في نهضة السودان" ما نصه: "... وبدأ يطالب بأن يسمح له بالإقامة في الجزيرة أبا وفلاحة الأرض فيها ولكن السلطات رفضت واستمرت رافضة حتى وقعت حادثة عبد القادر ود حبوبة عام 1908م، هذه الحادثة كانت حلقة من سلسلة الانتفاضات التي فجرها رجال عاصروا المهدية ولم يستطيعوا الصبر علي الحكم الأجنبي. وأكدت انتفاضة عبد القادر ود حبوبة للحكام الأجانب أن مشاعر الأنصار تحت السطح قوية وقابلة للانفجار من وقت لآخر وأن سياسة التضييق عليهم تدفع إلى ذلك الانفجار. لذلك رأوا الاستجابة لطلب السيد عبد الرحمن وسمحوا له أن يذهب للجزيرة أبا يصحبه أفراد من الأنصار. وهنالك اعترضه بعض الأهالي في الجزيرة أبا من الذين كانوا يستخدمونها للمرعي والزراعة الموسمية. ونشأ نزاع حكم فيه مفتش كوستى بأن ليست للسيد عبد الرحمن حقوقا وراثية في الجزيرة أبا ولكنه في خلال خمس سنوات إذا عمر أرضا فهي له. وعندما تسامع الأنصار أن ابن المهدى استقر في الجزيرة أبا توافدوا إليه .... بعد عام 1916م. وكان القادمون يروون كيف ظهر لهم السيد عبد الرحمن في المنام ودعاهم للهجرة إليه وكانوا مستعدين للانضمام إليه وفاء للبيعة مع الأمام المهدى وتأهبا لإعلان الثورة وشن الجهاد من جديد...".
وكتب سلاطين لزملائه في قسم المخابرات في 18 يناير 1909م متسائلا: "هل لنا أن نعطي عبد الرحمن بن محمد أحمد تصاريح سفر إلى ومن الفشاشوية (وهي محطة قطار صغيرة (سندة) على ضفة النيل الأبيض مقابل الجزيرة أبا)؟ ووافقه البريطاني أمري من قسم المخابرات، والذي كتب الآتي لحاكم مديرية النيل الأبيض ما نصه: "سيصل عبد الرحمن بن المهدي إلى الفاشاشوية يوم 24 في هذا الشهر ... وقد أعطاه هذا القسم تصاريح السفر اللازمة هو ومعه اثنين من الخدم. وهو يرغب بشده في أن نمنحه قرضا لعمل ساقية خاصة به في الجزيرة أبا. سأكون شاكرا لو قمتم بتقديم كل عون له."
وبذا بدأ عهد سماه الأنصار "البلطة"، (وهو اسم آخر للفأس الذي تقطع به أشجار الغابات). وأستفاد عبد الرحمن من أخشاب غابات الجزيرة أبا وزراعتها لعدد من السنين القادمة، وأغناه الدخل الذي كان يحصل عليه عن مساعدات الحكومة وقروضها، وسمح له بالبدء في توسع مطرد في حيازاته الصغيرة. ولم يكن ذلك أمرا سهلا أو خال من العوائق. فقد خاض عبد الرحمن صراعا قانونيا حول ملكية الأرض مع بعض سكان الجزيرة أبا (كما جاء في كتيب السيد الصادق المهدي المذكور أعلاه. المترجم).
وفي 19 نوفمبر من عام 1910م كاتب سلاطين رئيس قسم المخابرات مجددا بما نصه: "عبد الرحمن بن محمد أحمد سيغادر إلى الجزيرة أبا لـ ... وتحسين زراعته. هلا أعطيته قرضا بمبلغ ستة جنيهات يخصم بالتدريج من راتبه".
وعند حلول عام 1914م كانت زيارات عبد الرحمن الشتوية للجزيرة أبا (والتي كانت تستغرق شهرا كل عام) قد غدت روتينا راتبا، وكان قسم المخابرات البريطانية يمنحه في كل زيارة تصاريح سفر مجانية. غير أن ملاحقة ومراقبة السلطات البريطانية له لم تخفف أبدا. ففي مذكرة من قسم المخابرات في 22 نوفمبر من عام 1914م لحاكم مديرية النيل الأبيض في الدويم جاء فيها أن عبد الرحمن: " قادم للجزيرة أبا لزيارة مزرعته ... وقد أمر بتقديم نفسه إليك ولمفتش كوستى ... وقد تم التشديد على عبد الرحمن هذه المرة بضرورة مراعاة سلوكه... وآمل أن تكون أنت ومفتش كوستى راضين عن سلوكه... دون أن تسمحا له بملاحظة أنه تحت المراقبة".
وعندما غدا عبد الرحمن ومن معه من الأنصار مكتفين ذاتيا من الطعام، نال عقودا من مصلحة السكة حديد لتوريد أخشاب كانت تستخدمها كوقود، خاصة عندما صارت كل الأخشاب المتوفرة في البلاد تحول لصالح المجهود الحربي في الجبهة الغربية، وأيضا لسفن الحكومة البخارية التي كانت تجوب النيل الأبيض من الشمال للجنوب (مما أثار سخط مصلحة الغابات!). وفي خطاب رسمي صدر عام 18 يونيو 1917 جاء ما يلي: "قمنا بإقراض عبد الرحمن عشرين جنيها مصريا لشراء أدوات تتعلق بعقده معنا لتوريد أخشاب، ولكنا اكتشفنا أنه احتفظ بالأدوات، ونكث ببنود العقد، وباع الأخشاب إلى مصلحتين حكومتين أخريين بأسعار أعلى مما تعاقد به معنا. وبالنظر إلى وضعية هذا الرجل السياسة فإنني أرغب في معرفة المدى الذي يمكن أن أذهب إليه في إجباره على دفع دينه". (للمزيد عن هذا التاريخ يمكن قراءة كتاب السيد الصادق المهدي في "جهاد في سبيل الاستقلال"، وهو مبذول على الشبكة الاليكترونية. المترجم)
ولكن ظل تعاقد عبد الرحمن مع مصلحة السكة حديد ساريا لمدة أربعة أعوام، وكانت باخرة الحاكم العام نفسه ترسو على شاطئ جزيرة أبا لتتزود مجددا بالأخشاب وهي في رحلتها جنوبا على النيل الأبيض.
تعاون أم مناورة (Collaboration or manipulation)
كانت قدرة عبد الرحمن على التكيف مع النظام وأحيانا الالتفاف عليه (working the system) تشير إلى برغماتية كان هي الأساس الذي عرفت به "المهدية الجديدة"، والتي شبهها جعفر بخيت بأنها "تمثل نفوذه الشخصي وثروته وهيبته (برستيجه)".
وأعطى عبد الرحمن - وكان ما يزال في طور الشباب، وبعيدا عن مركز القوة والتأثير- المستعمر الإحساس بأنه يتعاون مع المؤسسة الاستعمارية (التي ترتدي الطربوش)، بينما كان يقوم في ذات الوقت وبنسق ممنهج في تنظيم أفراد عائلته وأنصاره المتزايدين. وليس بالإمكان تصوير ذلك الواقع بأوضح مما قاله عبد الرحمن نفسه في حديث له مع ريجيلاند ديفز المسئول في قسم المخابرات في 14 سبتمبر من عام 1924م من أن كل أتباعه من الأنصار الذين التفوا حوله يؤيدون الحكومة، وهذا التأييد ناتج عن نفوذه عليهم، فقد كان هو من فرض عليهم ذلك التأييد لأنه يؤمن جازما بأن الانجليز يمثلون القوة التي يمكنها خدمة مصالح هؤلاء الناس.
وقال عبد الرحمن ما زعم ريجيلاند ديفز أنه سمعه من عبد الرحمن في أيام صار فيها البريطانيون يميلون لتقوية ما سموه "الإدارة الأهلية"، والتي تعتمد على زعماء القبائل، والذين تم منحهم القابا مثل شيخ وناظر وعمدة، وطلبت منهم القيام بأعباء إدارة شئون مواطنيهم بالإنابة عنهم. وبدأ البريطانيون يحسون بالقلق والانزعاج من محاولات عبد الرحمن استمالة هؤلاء القادة المحليين له ولدعوته. وفي هذا الصدد جاء الآتي في تقرير لإيان بروس – جاردن مساعد مفتش القطينة في كردفان (هكذا في النص. المترجم) صدر في 30 مايو من عام 1923م يصف محاولات عبد الرحمن لتقوية نفوذه في أوساط زعماء القبائل بدعوتهم لاجتماع: " يبدو لي ... من المستحيل القبول بأن يقوم شخص ليست له صفة رسمية بدعوة أي فرد يعمل مع الحكومة دون الحصول على موافقة مسبقة من السلطات الرسمية. إنه من المستحيل السماح لاثنين من العمد بالغياب عن مناطقهما دون أن يعرقل ذلك أعمال الحكومة، بينما يرفضان طلب استدعاء لهما من رجل دين من ذوي الحيثية. إن هذا من شأنه زعزعة وخلخلة ولاء هؤلاء القادة المحليين في الحكومة. لقد كنت أخشى ... من أن تجميع ذلك العدد من القادة المحليين تحت قيادة رجل واحد قد تجعل منه "ملكهم غير المتوج" إن لم يكن أكثر".
ومنذ عام 1915م واصل البريطانيون في منح عبد الرحمن أفضل الفرص لتطوير وضعه مع الحكومة. ففي غضون سنوات الحرب العالمية الثانية واجهت الحكومة في الخرطوم خطر دعوة تركيا للجهاد في العالم الإسلامي قاطبة بدعوتها لقادة العالم الإسلامي "لاستخدام نفوذهم لتهدئة شعوبهم". وكان هذا يعني أن الحكومة البريطانية كانت تحتاج لعون عبد الرحمن ووضعه الديني كقائد وإمام، وهو نفس الوضع الذي ظلت تحاول حرمانه منه في خلال الستة عشر سنة السابقة. ولكن، وكما كتب المؤرخ ريتشارد هيل في كتابه عن سلاطين : "لم يكن ذلك الوقت هو وقت الانتباه لدقائق المسميات الدينية وللطائف التفاصيل الدبلوماسية الدقيقة (niceties).
وأزاحت الحرب العالمية الأولى سلاطين من المشهد بسبب أصوله النمساوية – وبدأت الإدارة البريطانية تراجع – ولكن باحتراس وحذر - في كثير من مواقفها. وبعد ثلاثة أشهر من مغادرة سلاطين للسودان بدأ المسئولون البريطانيون في استخدام اللقب الذي حرم سلاطين استخدامه قبل اسم عبد الرحمن. ففي ديسمبر من ذات العام نبه مساعد مدير المخابرات الإداري جورج أليس في واد مدني إلى أن "السيد عبد الرحمن بن المهدي سيقوم قريبا برحلة في مناطق النيلين الأبيض والأزرق في مهمة صرح بها بصورة خاصة سعادة الحاكم العام ... وأرجو منك تقديم كل ما يلزم من أجل إنجاح هذه الزيارة، وأتمنى في ذات الوقت أن تستمروا في وضعه تحت المراقبة اللصيقة، ومتابعة وملاحظة تحركاته وكل ما يدلي به من تصريحات أو أقوال في هذه الرحلة، وإرسالها لي سرا".
وطاف السيد عبد الرحمن مناطق الجزيرة ليطمئن مواطنيه السودانيين بأن بريطانيا لا تخوض حربا ضد الإسلام. وقد يبدو هذا الأمر وكأنه تعاون مع المستعمر البريطاني، ولكن كانت تلك الزيارة فرصة مواتية للسيد عبد الرحمن للقاء جماهيره، والذين سوف يفترضون بطبيعة الحال أنه يحظى بموافقة البريطانيين على منحه – وبصورة من الصور- بعضا من الدور القيادي الذي كان يلعبه والده. وبرر السيد عبد الرحمن دوره في الحملة ضد الدعايات التركية بالتذكير بتاريخ الإمبراطورية العثمانية في السودان والمتمثل في الاحتلال المصري من عام 1820 وحتى 1885م. ونقل السيد الصادق المهدي في كتابه "جهاد في سبيل الاستقلال" مقولة السيد عبد الرحمن عن هجومه على دعايات الأتراك: "ولا ينتظر أحد منى أن اعطف على السلطان التركي وتاريخ الأتراك منذ أن عرفوا طريق السودان مخضب بدماء قومي وأنصاري فوق قسوتهم ووحشيتهم الفظيعة، كما إنني كوطني لن اعطف على قضية لا تنال بلادي منها كسبا سياسيا".
وأثمرت سياسة "شبه التعاونquasi collaboration" التي انتهجها السيد عبد الرحمن عن السماح له بمقابلة ملك بريطانيا في لندن، وعلى الحصول على عدد من الأوسمة، وجذب انتباه الإداريين الاستعماريين اللصيق لعقود قادمات (دون كبير ثقة أحيانا).
ومنذ بدايات سنة 1921م بدأ السيد عبد الرحمن في عقد اجتماعات سياسية في داره. وفي أحد تلك الاجتماعات (وكما جاء في مذكرات بابكر بدري) تم التوقيع على عريضة موجهة لحكومتي الحكم الثنائي جاء فيها أنهم يفضلون أن يحكموا من قبل دولة واحدة(وكانوا يقصدون بريطانيا). ووصف المؤرخ حسن عابدين ذلك التطور بأنه "تقدمة للنجاح والتعاون المتبادل بين نظام استعماري و"ارستقراطية وطنية"". ولكن كانت للسيد عبد الرحمن (والذي صار بعد ذلك التاريخ يلقب بإمام الأنصار) برامج عمله (أجنداته) الخاصة، والتي كانت تتلخص في استغلال كل فرصة لتحسين صورته في عين الحكومة (ذكر المؤلف في الحاشية هنا أن حاكم الخرطوم اشتكى لبابكر بدري في اجتماع معه في 1921م من عبارة "عليه السلام" التي الحقت باسم عبد الرحمن المهدي في العريضة الجماعية المذكورة أعلاه، وقال له إن "الحكومة لا تعترف بأي قدسية للمهدي، ولن تسمح بإلحاق عبارة "عليه السلام" باسمه.
وتحاشى السيد عبد الرحمن أي دور نشط له في عملية ضم البريطانيين لسلطنة دارفور رغم وجود عدد كبير من أنصار المهدية في غرب السودان. ولكن ربما كان السيد عبد الرحمن يدرك أن إعادة اندماج دارفور مع السودان سيفتح الباب لمزيد من أنصاره في البلاد. كما أنه استفاد من الخلافات العلنية المتزايدة بين دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر)، وكان يحرص على إعلان ولائه الكامل لبريطانيا. وفي يومي 23/4/ 1919م و19/6/ 1924م (وهما يومان مهمان في تاريخ الوطنية المصرية، وبالتالي كانا مصدر قلق للبريطانيين)عمل السيد عبد الرحمن على اصدار بيانات ولاء جماعية لبريطانيا. ووقع السيد عبد الرحمن علي أحد تلك البيانات في عام 1924م فوق اسم مفتي السودان وكتب وظيفته (بتواضع مخادع): مزارع cultivator. ورغم ذلك فقد ظل المسئولون في الخرطوم يشكون في ولاء السيد علي عبد الرحمن لبريطانيا. وعندما أقدم حاكم عام السودان السير جيوفري آرشر على زيارة الجزيرة أبا زيارة رسمية في 14/ 2/ 1926م، عمل مجلس الحاكم العام على اجباره على الاستقالة والعودة إلى لندن.
++
منقول


عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.65 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 2  
كاتب الموضوع : عمر محمد الأمين المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي
قديم بتاريخ : 10-21-2014 الساعة : 08:10 AM

دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان (2) ..
(Dairat al Mahdi: Money, Faith and Politics in Sudan 2)
Fergus Nicoll فيرقس نيكول
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لمحاضرة ألقاها الكاتب البريطاني والصحفي المستقل فيرقس نيكول بجامعة درام في 20/6/ 2013م ضمن السلسلة المسماة "محاضرات سير وليام ليوس التذكارية". وعمل السيد نيكول كمدرس للغة الإنجليزية بثانويات السودان في ثمانينات القرن الماضي، ثم عمل بهيئة الإذاعة البريطانية ويعمل الآن بالقسم الإنجليزي بقناة الجزيرة. وللمؤلف كتاب بالإنجليزية عن المهدي وحياته، نشر بعنوان: " سيف النبي: مهدي السودان "عام 2009م مترجما عن مركز عبد الكريم ميرغني.
المترجم
********
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
فشل الاحتواء (The failure of containment)
لم تكن السياسة البريطانية حيال المهدية الجديدة ثابتة أو مستقرة أبدا. فكانت كلما أتت إدارة جديدة لحكم البلاد كان عدد من المتعاطفين والمتشككين فيها يقدمون تقديرات متباينة أو متضاربة حول تلك المهدية. وأصدر قسم المخابرات في 18/11/ 1925م تقويما للمهدية الجديدة جاء فيه: " لا شك أن تلك الحركة قد تشكل خطرا محتملا... إن إزاحته (المقصود هو السيد عبد الرحمن المهدي) وإبعاده لمكان ما قد يكون مغامرة تتسبب في اضطرابات أمنية... ومن الأفضل أن تتم معاملته بصرامة ولكن بقدر عال من الاعتبار والاحترام الشخصي، وهذا من شأنه المحافظة على ولاء أنصاره (لنا)". وكتب ضابط كبير بالجيش (هو اللواء هيربرت هيدليستون) في 8/ 8/ 1926م يرد على ذلك بالقول: "إن قيام ثورة مهدية يفترض وجود "مهدي" يظهر علنا في الساحة ويعلن للناس أنه "مهدي"، ويتولى مقاليد دعوته، ويتقدمهم في المعارك. وليس تلك من صفات من يقود حركة المهدية اليوم، إذ أنه ليس بمحارب". ولا شك أن ذلك الجنرال لا يدرك كم كان تقييمه صحيحا ومطابقا للسيد عبد الرحمن.
وفي بداية العشرينيات ظهرت معالم الثراء على السيد في قصوره بالخرطوم وأمدرمان والجزيرة أبا. وبحسب ما أورده الصديق عبد الرحمن أزرق فقد كان السيد عبد الرحمن يمتلك في عام 1935م نحو 15000 فدانا من الأراضي الزراعية، وكانت ثلث تلك المساحة تدر سنويا نحو 20 إلى 30 الفا من الجنيهات. وعبر السير جيمس روبرتسون عن رأي الإدارة البريطانية في ذلك التوسع المتزايد لثروة السيد عبد الرحمن في كتاب له صدر عام 1974م بالقول: "إن نجحنا في إقناعه بتوجيه كل طاقاته للفلاحة وزراعة القطن، فسوف لن يجد في نفسه ميلا لزيادة نفوذه الديني والسياسي في البلاد". بينما أسمى كاتب المهدية الجديدة السيد الصادق المهدي تلك السياسة البريطانية في كتاب له عن "الجزيرة أبا" بأنها تقوم على "الحصار والإلهاء عن طريق تحقيق مكاسب تجارية". ولكن ما حدث هو أن البريطانيين لم يفلحوا في إلهاء السيد عبد الرحمن، بل دعم الرجل من قوة مركزه الديني والسياسي مستخدما ثروته تلك التي شيدها من حصاد "دائرة المهدي" ومستفيدا من النظام القائم. وكان رأيه دوما يستند إلى لغة التجار البرغماتية (العملية) التي ترى أنه إن كنت قد أقرضت أحدا من الناس مبلغا من المال وطالبته برده، فعرض عليك أن يعطيك نصف ما عليه من دين، أفلا تقبل بالنصف ثم تواصل المطالبة بالباقي؟ كانت تلك هي نظريته حول التقدم – في ما يخص وضعه الخاص - وكذلك في أمر حقوق البلاد السياسية الأوسع والأشمل فيما بعد. ووصف الصحافي محمد خير بدوي في مذكراته المسماة "قطار العمر" تلك السياسة بأنها تمتاز بالحكمة والدهاء، وبأنها إحياء لثورة أبيه من دون "هواجس دينية".

بداية إمبراطورية القطن (Beginning of the cotton empire)
كان تشييد سد (خزان) سنار على النيل الأزرق في عشرينيات القرن الماضي لحظة محورية للسيد عبد الرحمن. فقد تحصل في سنوات إنشاء السد على كثير من العقود من الباطن(subcontracts) لتوريد الاخشاب اللازمة لبناء مساكن للعمال ومكاتب للموظفين وبعض منشآت بنية السد التحتية. وأهم من ذلك فقد خطرت له –وللمرة الأولى- فكرة ثورية في أن القطن هو ما سيكون عماد ثروة السودان، وثروة أي رجل أعمال سوداني يقتحم مجال زراعته. وعند افتتاح السد في 21 يناير 1926م كان اسمه يتصدر قائمة كبار علية القوم في سودان دولة الحكم الثنائي. وجاء في صحيفة السودان هيرالد (والتي كانت قد أصدرت ملحقا خاصا بمناسبة افتتاح الخزان في يوم 20 فبراير 1926م) أن أُولَئِكَ السادة أتوا لحفل الافتتاح وهم في حلل زاهية وجلابيب أنيقة شديدة البياض ومرصعة بالأوسمة مختلفة الألوان، وشكلوا مع جمهور الحضور السوداني بجلابيهم البيضاء وعلى خلفية شاطئ النيل لوحة زاهية.
وبعد عشرة أيام من حفل افتتاح سد سنار حصل السيد عبد الرحمن على قرض حكومي بقيمة 4500 جنيها مصريا لبدء زراعة القطن في الجزيرة أبا. ولم يرد ذلك القرض أبدا وذلك لأنه وبعد عامين من منح ذلك القرض عمل "أصدقاء في مراكز عليا" على اعتبار القرض هدية لا ترد، كما جاء في خطاب من الحاكم العام للسكرتير المالي بتاريخ 2/2/ 1926م، وخطاب من ذات الحاكم للسكرتير الإداري في 30/3/ 1928م (بحسب ما أورده جعفر بخيت في كتابه عن الإدارة البريطانية). ثم أتى من بعد ذلك دعم حكومي فعال آخر عندما صار السيد عبد الرحمن شريكا في مشروع القطن الحكومي في قوندال على النيل الأزرق. وساهمت الحكومة في المشروع بمبلغ 28000 جنيها، وكان على السيد عبد الرحمن القيام بواجبات "الإدارة العامة والإشراف"، على أن يتم تقسيم الأرباح مناصفة بين الشريكين.
وكانت مشاريع القطن الضخمة، ولتحقق أكبر قدر من النجاح، في حاجة نظم ري صناعي متطور، وكان السيد عبد الرحمن هو أحد أوائل قلائل صفوة رجال الأعمال الذين امتلكوا مضخات (طلمبات) خاصة في النيل الأبيض. وتم في 1927م، وبعد تسعة سنوات على تقديم طلبه، التصديق له باستخدام المضخات في مشاريعه على النيل الأبيض. وكانت تلك هي إحدى ثمار رياح التغيير في الخرطوم. وتؤكد ذلك سجلات جمعية مزارعي القطن السودانية أن أول استخدام للمضخات كان في الجزيرة أبا في عام 1929م. وكان استخدام تلك المضخات في بادئ الأمر على سبيل التجريب، إذ لم يسبق لأحد من قبل أن حاول زراعة القطن على النيل الأبيض. وكان سد سنار يمد مشروع الجزيرة الحكومي الضخم بالمياه من النيل الأزرق، وكانت الحكومة تحاول أن تقلص من نشاط رجال الأعمال في المشاريع الزراعية الخاصة حتى لا تستقطب العمالة التي تعمل في مشروعها في الجزيرة. غير أن مشروع السيد عبد الرحمن في الجزيرة أبا (والذي بدأ بـ 180 فدانا)أصاب نجاحا منقطع النظير في انتاج القطن طويل التيلة.
وكانت تلك هي بداية توسع كبير ومتسارع وميلاد مؤسسة تجارية متنوعة النشاط. ولم يمض وقت طويل حتى كانت مزارع عائلة المهدي – وكانت كل واحدة منها تحت رئاسة واحد من أفراد العائلة الممتدة- لا تزرع القطن فقط، بل تتاجر فيه بشرائها محصول المزارع الصغيرة في المنطقة والتي لم تكن تمتلك محالجها الخاصة. وبذا نجح السيد عبد الرحمن وعائلته الممتدة في السيطرة على إنتاج وتوزيع القطن، وعلى جني أرباح ضخمة من وراء كل ذلك أعيد استثمارها في مصانع ومعاصر للزيوت وشراكات تجارية وزراعية جديدة. وأدخلت محالج القطن (في ربك وغيرها) دخلا اضافيا مقدرا، إذ كانت تؤجر لحلج كثير من مشاريع القطن الصغيرة في المنطقة. وغدت "دائرة المهدي" في العمل كمؤسسة مالية تقرض أصحاب المشاريع الزراعية الصغيرة الراغبين في شراء جرارات (تراكتورات) وبذور ومضخات صغيرة وغير ذلك. ووصف مبارك الفاضل المهدي في مقابلة له في يوم 8/5/ 2013م ذلك النشاط الاقتصادي كـ "ممول مجتمعي Community financier"، وبأنه: "من وسائل تمكين أنصار السيد عبد الرحمن". واستمرت دائرة المهدي تقوم بذلك الدور حتى الخمسينيات.
وجعل ذلك التوسع الاقتصادي السيد عبد الرحمن في معية أمراء تجار السودان، وكان جل هؤلاء من الأجانب من الأغاريق والمصريين والأرمن والشوام. وكان من شركائه رجل الأعمال الإغريقي الشهير قراسيموس كونتميخلوص. وبحسب ما أورده المؤرخ حسن أحمد إبراهيم في مقال له في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" عام 1977م كان عزيز كافوري العضو البارز في الغرفة التجارية السودانية هو من باعه منزله الأول (تاون هاوس) في الخرطوم في عام 1918م. ويؤمن البعض (مثل الصحافي محمد خير بدوي) أن رجال الأعمال من المشرق العربي (والذين يعرفون جماعيا في السودان بالشوام أو السوريين) كانت لهم اليد الطُّولى في بناء ثروة السيد عبد الرحمن، ربما كنوع من "الاستثمار" فيه كأفضل فرصة لهم في البقاء في حالة استقرار بالبلاد في أي عهد قادم يصعب التنبؤ بما سيأتي بعده عقب خروج الاستعمار البريطاني.
عبد الرحمن يمد يده للغرب(Abd-al-Rahman reaches out to the West)
كانت مشاريع السيد عبد الرحمن المتنامية تحتاج لأيادي عاملة كثيرة، وهنا تجلت القدرة الفائقة لذلك السيد على مزج سلطته الدينية بمصالحه التجارية. فببساطة، كان بمقدوره الاعتماد على أعداد كبيرة من الرجال الراغبين – تطوعا - في العمل في مزارعة مقابل توفير الإعاشة والسكن لهم، وحصولهم على القرب من ابن المهدي، أو كما جرت عبارتهم "بليلة وبركة". وفسر الصديق عبد الرحمن أزرق (مؤلف المقال الوحيد عن دائرة المهدي) ذلك بما يفيد بأن: "الرغبة النفسية وروح الولاء الطائفي للمهدية هما أكثر ما دفع المزارعين للعمل دون التفاف للكسب المادي، وجعلهم يغضون الطرف عن كل المناقص ... فالهجرة للجزيرة أبا بالنسبة لهم كانت مواصلة لقضية "الجهاد"، وامتدادا للحركة المهدية الثورية".
وكان يهاجر كل عام من كردفان ودارفور وما ورائها إلى النيل الأبيض نحو 15000 فردا للعمل في مشاريع السيد عبد الرحمن (ذكر المؤلف في الحاشية أن بعض من كانوا يأتون من غرب السودان كانوا يرغبون في العمل في المشاريع الحكومية، مما خلق تنافسا حول الأيدي العاملة، وأثار عمل هؤلاء في مشاريع السيد عبد الرحمن غضب الحكومة التي اتهمته بسحب العمال من مشاريعها. المترجم). ولجأ السيد عبد الرحمن في سنوات العشرينيات لأنصار أبيه الكثر، خاصة في دارفور، بعد أن قامت الحكومة بضمها للسودان البريطاني – المصري في 1916م. وزاد من صلة السيد عبد الرحمن بدارفور أن والدته كانت إحدى قريبات السلطان المعزول ("يمة مقبولة" كما عند الأنصار. المترجم). وكتب التجاني مصطفى محمد صالح في رسالته للدكتوراه والمقدمة لجامعة سانت أندروز البريطانية عام 1991م عن صلات السيد عبد الرحمن بقبائل معينة في دارفور بما يفيد بأن كثيرا من هؤلاء قد استجابوا لدعوة الإمام لهجر مساكنهم وأطفالهم والهجرة للجزيرة أبا لتعلم تلاوة الراتب والتعبد في "مسجد الكون".... وهاجر غالب هؤلاء تاركين خلفهم ممتلكاتهم وعائلاتهم من أجل عقيدتهم الدينية، ووهبوا أنفسهم للدائرة. وعمل المهاجرون في زراعة القطن والذرة وقطع الأخشاب دون رواتب محددة على أمل أن يلقوا ثواب عملهم في الآخرة ... وعابوا على من لم يهاجر للجزيرة مثلهم، وأتهتموهم برقة الدين..."
وفي دارفور انزعج بعض السلاطين من قلة الأيادي العاملة في مناطقهم بسبب الهجرة الموسمية الكبيرة لمواطنيهم إلى الجزيرة أبا، وطلبوا العون من السلطات البريطانية لحل تلك القضية. وأوردت المؤرخة لدويين كابتجينز في كتاب لها صدر عام 1985م أنه ورد في تقرير حكومي صدر في 1/8/ 1936م أن "السلطان ... عبر عن سخطه لاستغلال عاطفة رجاله الدينية واستغلالهم كعمالة رخيصة (أو عمال سُّخْرَة) للسيد عبد الرحمن، وقال أيضا أن الناس في أبا ينقسمون لقسمين: مهاجرين وأنصار، ولكنهما يلقيان معاملة واحدة تتلخص في العمل القسري (forced labour) من السادسة صباحا حتى الثالثة بعد الظهر".
ورفض الإمام نفسه تهمة استغلال العمال والسُّخْرَة، وأصر على أن النظام المعمول به في الجزيرة أبا هو نظام "أبوي وإيجابي paternalistic and positive". وفي ذلك كتب الصديق عبد الرحمن أزرق نقلا عن السيد عبد الرحمن أن "جموع الأنصار التي تدفقت على الجزيرة أبا بعد أن هجرت وطنها وعائلاتها وكل ما تملك لم تفعل ذلك من أجل العمل في الزراعة أو غيرها. لقد أقبلوا ليسمعوا كلمة مني أعلن فيها الثورة على الحكم الأجنبي. غير أني تدبرت في الأمر ونظرت فيه من زاوية أخرى. لقد قر عندي أن العمل العسكري محكوم عليه بالفشل، وأن إهدار الحياة هو الهزيمة بعينها. ولقد رأيت ألا أقبل ذلك كي أحافظ على تراث وإرث المهدية حتى لا تندثر هذه الصفحة من تاريخنا. لقد كان مقدم من أقبل علينا هجرة وجهاد، تماما كما فعل آبائهم من قبل مع المهدي - ولقد وجهت روحهم المتوقدة للتفاني والمتطلعة للقتال نحو البناء والتعمير".
ولقد منح الرجال المهاجرون السيد عبد الرحمن مصدر ربح آخر ألا وهو الزكاة، والتي كان الأنصار يرون أنه يلزمهم تقديمها لابن الإمام. وكانت تلك الزكوات عينية في غالبها الأعم مثل شحنات الحبوب وقطعان البهائم، وقطع الأراضي في بعض الأحايين، وزاد تدفقها من ثروة العائلة. وأقر الصديق عبد الرحمن أزرق بأن تلك الزكوات كانت إحدى الوسائل التي تراكمت بها ثروة الدائرة، غير أنه ذكر أيضا أن لا أحد يعلم تمام العلم الطريقة التي كانت تصرف بها زكوات الأنصار بعد أن تصل إلى الدائرة ولا مصارفها. وفي فبراير من عام 1924م طلب نائب حاكم دارفور جورج ديبو تفاصيل تلك الزكوات، وأتت الإجابة بأنها كانت تتكون من 2500 جنيها (قيمة البهائم والذرة). وأعترف الصديق عبد الرحمن أزرق بأن ما ذكر ربما يكون أقل من نصف المبلغ الحقيقي. وفي 25 /11/ 1931م رفض ريتشارد أوين أحد الإداريين في مديرية النيل الأبيض ما ادعاه السيد عبد الرحمن عن ملكيته لبعض المزارع التي قال إنها أهديت إليه من قبل بعض رجال الدين في المنطقة، فكتب التالي: " كان... في غالب الأحايين يحصل على موافقة أصحاب تلك المزارع بالتلميح لهم بأن معجب جدا بتلك الأرض، فيجد صاحب الأرض نفسه (إلا إذا كان مضادا للمهدية) غير راغب في إغضاب السيد ومقاطعته، فيهبها له. ولا يقوم المالك الجديد بتشغيل العمال المحليين في تلك المزارع، بل يجلب أنصاره المتعصبين للعمل بها، وهؤلاء قد يكونوا مصدرا محتملا للثورة الدينية أكثر من أي عنصر مهدوي آخر في السودان..."
ووضع ذلك الحال من الإخلاص والتفاني من يعطون الزكوات والمهاجرين أيضا في خلاف مع قادتهم القبليين، والذين كان معظمهم يقاوم انتشار نفوذ السيد عبد الرحمن في مناطقهم. فالمهاجر قد يقدم جملا كزكاته في الجزيرة أبا، ولكنه يطالب بتقديم جمل آخر عند عودته لدارفور أو كردفان. وأحال السيد عبد الرحمن ذلك الموقف لصالحه بقوله للبريطانيين أنه من الأفضل أن يعالج أمر جمع مناديبه للزكوات بنوع من السرية والحصافة حتى لا يثير جمعها من أتباعه غضب زعماء قبائلهم والذين يبغضون أن يروا أتباعهم يدفعون الزكاة لغيرهم".
وفي هذه النقطة عن "مناديب السيد" يجب القول بأن السيد نجح ومن عام 1916م في خلق شابكة (شبكة) من المناديب انتشرت في أجزاء واسعة من النيلين الأبيض والأزرق وكردفان ودارفور وما ورائها مما أثار قلق البريطانيين، فقاموا في عام 1923م (بحسب ما ورد في مذكرات بابكر بدري) بتوزيع نشرات تحذر فيها المواطنين من أن الحكومة لا تعترف بعبد الرحمن المهدي (مع حذف كلمة "السيد" هذه المرة) ولا تعده إلا مجرد مواطن عادي ... وأن من يقوم باسمه بجمع أي مبلغ من المال (نقدا أو عينا) سوف يعتقل. وأورد عوض السيد الكرسني في مقال له عن المهدية الجديدة في مجلة "الشئون الإفريقية" عام 1987 ما جاء في مذكرة حكومية من أن السيد عبد الرحمن أقر في عام 1924م بأن لديه فقط 24 من "المناديب" مع مندوب واحد يعمل في دارفور بصورة مؤقتة، وعد ذلك تقليلا مفرطا لعددهم الحقيقي. ووصف السيد عبد الرحمن المهام الوظيفية لهؤلاء المناديب (بالإضافة لعملهم كمناديب زراعيين وتجاريين) بأنهم وبحسب قوله: "يمثلونني في كل الأمور مع الحكام المحليين ... وفي كل الأمور والمصالح التي تتعلق بي وبمواطني من الأهالي، إذ أنني أعهد إليهم بإبلاغي بكل ما يريد الأهالي إيصاله لي".
ووصل مناديب السيد عبد الرحمن لخارج حدود السودان الغربية. وبحسب مذكرة أمنية صدرت في 30/ 3/ 1924م اشتكت نيجريا (وهي تحت الحكم البريطاني المستعمر) من رسائل بعث بها السيد عبد الرحمن جاء فيها قوله بصراحة: "إنني أسير على درب والدي ... وأدعوا المسلمين في غرب أفريقيا للهجرة إلى الجزيرة أبا ..." وبشر من يسقط وهو في طريق هجرته لأبا بالنعيم المقيم في جنة الخلد. وأصدر السيد رود المسئول البريطاني في نيجريا مذكرة ناقدة يوم 22/5/ 1924م تعليقا على ذلك النبأ، ووصف رسائل السيد عبد الرحمن بالعمل الشائن.
وشكل التوافد المكثف للمهاجرين معضلة لباشمفتش كوستي، والذي كان عليه القيام بإحصاء عدد البيوت الصغيرة التي بنيت لهؤلاء المهاجرين الجدد في مستوطنات بالجزيرة أبا. وبلغ أعداد تلك البيوت في عام 1936م نحو 6000 بيتا بحسب ما أورده البريطاني ك. دي. هندرسون (والذي عمل حاكما لدارفور بين عامي 1949 و1953م. المترجم)، والذي أورد في كتابه الصادر في 1987م عن "حياة المفتش البريطاني في السودان بين عامي 1898 و1955م" نقلا عن المفتش بيل هندسون من أن خطر الزيادة المضطردة في أعداد تلك البيوت لم تعره الحكومة أي اعتبار رغم توسلات نائب حاكم النيل الأبيض... و"كأن ذلك .... ليس كافيا ليلجئ المفتش صغير السن لقوارير الويسكي، فقد ألقي على كاهله أيضا مهمة لا يحسد عليها هي تقدير أرباح دائرة المهدي ... وسيأتي (المسكين) بأرقام ستلغى حتما بناء ًعلى معلومات يملكها (فقط) قسم المالية في الخرطوم".
وأوضح تقرير صدر في 20/ 7/ 1945م لإيان دوجلاس المراجع العام في الخرطوم عن ضرائب دائرة المهدي الصعوبات التي كانت تواجهها الإدارة البريطانية في متابعة وحصر حسابات عائلة المهدي وطرق حساباتها الملتوية (في رأيه)، وفي رصد الهجرات الجماعية للجزيرة أبا. ووقع على دوجلاس (عند زيارته للجزيرة أبا) عبء إحصاء ليس محصول أقطان السيد عبد الرحمن فحسب، بل ومحالجه ومزارعه المروية وبساتينه وإسطبلاته ومزارع قطعان بهائمه ومصانع غزله. وصادفت زيارته تلك احتفالا دينيا، أوضح لذلك الغريب الزائر التداخل (والتضارب) بين مصالح مضيفه السياسية والدينية والمالية. وأورد الموظف البريطاني رولو بولتون (ممثل مديرية النيل الأبيض في مكتب المراجع العام) في تقرير لرؤسائه بأن الصلاة في يوم زيارتهم "أمها عدد ضخم من الناس"، وأضاف بأنه: "اتضح لاحقا ... رسائل عديدة قد أرسلت لكل الأمكنة تحث أنصار المهدي المنتشرين (في داخل البلاد وخارجها) للقدوم للجزيرة أبا ليشهدوا هذا الاحتفال بالذات، إذ أن السيد عبد الرحمن - بحسب ما جاء في تلك الرسائل - كان يفترض أن يظهر كالنبي عيسى. لذا أرسلت الحكومة باخرة مسلحة لتعيد السيد عبد الرحمن لداره في العاصمة. ووجدت أنا صعوبة بالغة في إقناع أولئك "الحجاج" بالرجوع إلى ديارهم ... "
وكانت تلك التجمعات كافية لتقنع الكثيرين في إدارة الخرطوم بأنه، وعلى الرغم من إعلانات ومظاهر الولاء والخضوع، إلا أن المهدية ما زالت، وبحسب ما جاء في أحد تقارير المخابرات البريطانية في السودان "تمثل خطرا محتملا وكامنا، وينبغي مداومة وضعها تحت الرقابة اللصيقة".
==
[email protected]



عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.65 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 3  
كاتب الموضوع : عمر محمد الأمين المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي
قديم بتاريخ : 10-25-2014 الساعة : 06:42 AM


دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان (3)
(Dairat al Mahdi: Money, Faith and Politics in Sudan 3)
Fergus Nicoll فيرقس نيكول

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذا هو الجزء الثالث والأخير المترجم
********

بدء العمل رسميا في دائرة المهدي (Formal launch of the Dairat al -Mahdi )

لم يبق الآن، ومن ناحية تجارية ومالية، غير أن تجمع كل تلك المشاريع المختلفة والمزدهرة تحت جسم واحد مرخص به. وكان أول تجسيد لذلك الجسم الواحد هو تكتل فضفاض سمي بـ "دائرة المهدي" وذلك في عام 1925م، والتي تم تسجيلها بمقتضى قانون الشركات الذي صدر في ذات العام. غير أنه تم في يوم 18/12/1933م إعادة إطلاق "دائرة المهدي" في احتفال أقيم في أمدرمان، وذكر في الاحتفال أن الشركة قد تم تسجيلها تحت قانون جديد هو قانون تسجيل الشركات والذي صدر في عام 1931م.
وبحسب ما أورده صلاح حسن، كاتب سيرة عبد الله الفاضل، فقد كان التوسع التجاري هو ما جعل من الضروري إعادة توزيع التسلسل الهرمي للعمل في الدائرة. غير أنه أضاف أيضا أن "ظروف حوادث معينة" شابت العلاقات بين عبد الله الفاضل وعمه (السيد عبد الرحمن) مما دفع الأول لتقديم استقالته. أما ما دعا الاستعمار البريطاني للسماح بترخيص تلك الشركة فقد كان – في رأي فاطمة بابكر محمود في كتابها عن البرجوازية السودانية - أمرا سياسيا مقصودا لذاته، كان بمثابة المحاولة الأخيرة "لاحتواء السيد عبد الرحمن في حظيرة النظام الاستعماري بمنحه أفضيلة (في التعاملات) إن انشغل بالأعمال التجارية...".
وكان الصديق عبد الرحمن أزرق (كاتب المقال الوحيد عن "دائرة المهدي) قد عزا الأهمية الخاصة لتسجيل الدائرة لكونها جاءت بسبب "الصراع السياسي الذي صاحب مقدم الحكم الاستعماري للبلاد، وأيضا بسبب محاولات الإمام عبد الرحمن لإعادة إحياء روح المهدية في نفوس أتباعه وأنصاره". ولكن، أليست هنالك مفارقة ساخرة (إن لم نقل نفاقا بينا) من كون أن عبد الرحمن – والذي كان والده لا يكن للمال والثروات المادية الأخرى غير الاحتقار – قد غدا أول سوداني يقيم أكبر مؤسسة تجارية في البلاد؟
وكتب السيد الصادق المهدي نقلا عن السيد عبد الرحمن أن السيد (وقد بلغ من العمر 48 عاما) كان يرى أن الأساس المنطقي لإنشاء تلك المؤسسة كان أكثر عمقا من مجرد إقامة "صرح اقتصادي مهيب"، وأن ... "منظوره مستلهم من تعاليم الإسلام، والتي لا تسمح بالملكية الخاصة إن لم يكن لها وظيفة اجتماعية... فقد أنشئت الدائرة كمؤسسة جماعية ساهم في قيامها المهاجرون والأنصار معا. فالدائرة مؤسسة اقتصادية يقوم عليها رجال متحمسون يدركون أن عملهم فيها لا يعود عليهم بمكاسب شخصية، بل إنهم يعملون من أجل الوطنية والتنمية الروحية".
وتكثر الحكايات المروية التي تعضد ما يذهب إليه البعض من أن دائرة المهدي قد ساهمت بالفعل في الرفاه الاجتماعي (welfare) في المجتمع. فقد كانت هنالك تبرعات للمدارس المدنية والدينية (الخلاوي) والمكتبات والمساجد. وذهب نيبلوك في كتابه عن "الطبقة والسلطة في السودان" إلى أن تلك التبرعات كان الدافع (المؤجل) لها هو "بناء مصداقية في أوساط المتعلمين السودانيين". وهنالك كثير من المزاعم والحكايات المروية عن كرم السيد عبد الرحمن وشح خصمه زعيم طائفة الختمية السيد علي الميرغني (ذكر المؤلف في الحاشية أنه سمع بعض تلك القصص من مبارك عبد الله الفاضل في مقابلة له معه في 8/5/ 2013م. المترجم). من تلك الحكايات حكاية الطالب.... (ذكر الكاتب اسم الرجل. المترجم)، والذي عمل فيما أقبل من سنوات محافظا لبنك السودان لعدة سنوات. وكان السيد عبد الرحمن قد سمع بأن والد ذلك الطالب (وهو سائق قطار) قد توفي في أثناء تأديته لعمله، فأمر بـأن يصرف لعائلته مرتب شهري ثابت لم يتوقف إلا عند تخرج ذلك الطالب من الجامعة. وأشتهر السيد عبد الرحمن أيضا بكرمه مع الشعراء والكتاب والمغنين، في مقابل شح مشهور عند زعيم الختمية السيد/ علي الميرغني. فالناس يتناقلون قصة الشاعر ود العبيد الذي ذهب لدار السيد علي الميرغني يشكو عوزه وبؤس حالته، فما كان من السيد الختمي إلا أن دعا للشاعر المسكين ونفحه "فاتحة الكتاب". وذهب بعد ذلك الشاعر لمقابلة السيد عبد الرحمن ليبث شكواه، ولكن وقبل أن يبدأ الشاعر في بث شكواه من سوء الحال أمر السيد عبد الرحمن سكرتيره بمنحه بعض المال. فأطلق الشاعر لاحقا ما صار مثلا سائرا بأن "فاتحة أبو علوة تصرف عند أبو عبدة". (ورد أيضا في بعض المصادر أن السيد عبد الرحمن أقام حفل عشاء لوفد سوفيتي كان في زيارة للحزب الشيوعي السوداني بعد أن سمع من زعيم الحزب أنهم لن يقيموا لزوارهم سوى حفل شاي متواضع. المترجم).
وفي جانب آخر أكثر جدية ذكر أن السيد عبد الرحمن – بحسب رواية الصديق عبد الرحمن أزرق – قال: "فلتعلم أن دائرة المهدي هي مؤسسة اقتصادية هدفها تحقيق الأغراض الدينية والاجتماعية للأنصار... ولقد أصدرت أوامري لمديرها ... بأن يبذل الجهد والمال من أجل إنشاء المساجد والمعاهد، والحفاظ على كيان الأنصار والعمل على رفاههم".
وكان توسع "دائرة المهدي" في عقدها الأول (أي قبل أن تحصل على رخصة رسمية) أمرا مشكوكا في قانونيته. وحتى بعد مضي أربعة أعوام على قيامها، كانت مشروع الجزيرة أبا يزرع ما يقدر بأكثر من 300 فدان من الأراضي الزراعية غير المصرح بها قانونا. غير أن البريطانيين غضوا الطرف عن تلك المخالفة وغيرها من المخالفات، ومضوا كما كتب الصديق عبد الرحمن أزرق يقدمون: " دعما سخيا في كل مما من شأنه نماء وتطور الدائرة ... بغرض بدء عملية توازن اجتماعي واقتصادي معين في السودان في تلك السنوات". وكذلك حدث توسع كبير في الفروع الإدارية للدائرة. فقد كانت الشركة الزراعية الأصلية تضم شركة النيل الأبيض للمشاريع الزراعية وشركة النيلين الزراعية. وبلغ أقصى ما امتلكته الشركة العقارية 811711 مترا مربعا من الملكية العقارية. وكانت أكثر الشركات تنوعا في نشاطها هي الشركة التجارية، والتي كانت تقوم بعمليات بيع الأقطان والذرة والماشية، وتقوم أيضا بإدارة الزكوات، وتدير محلج القطن بربك، واشترت غالب أسهم صحيفة "حضارة السودان" مما جعلها المالكة الفعلية للصحيفة.
وفي يوم 7/6/1939م كتب الخبير في شئون الاستعمار مارجري بيرهام في صحيفة التايمز اللندنية أن الجزيرة أبا غدت "موسومة بنمط رياضي في الري تعوزه الرومانسية". وكانت تلك التصاميم الهندسية تغطي أيضا مساحات واسعة على ضفتي النيل الأبيض من الشرق والغرب حول الجزيرة أبا. وبلغ التوسع في تلك الأراضي المزروعة حده الأقصى في منتصف الأربعينات. وذكر الطيب محمد الزاكي في كتابه "العرش والمحراب" أن أكثر تلك الأراضي الزراعية كانت في الجزيرة أبا نفسها (حيث تمت زراعة 30000 فدان) ثم الملاحة (حيث زرعت 18000 فدان)، وكانت هنالك بعض المشاريع الصغيرة الأخرى مساحة كل منها لا تتعدى 1200- 1400 فدانا في الشوال والطويلة وقلي. وكانت هنالك مشاريع زراعية عديدة أخرى مثل مشروع قندال على النيل الأزرق، وأبو حليمة قرب الخرطوم، ومشاريع أخرى في الشمالية قرب بربر، وبلغ مجموع مساحتها 38400 فدانا. وكتب وليام ليوس باشمفتش كوستي في عام 1948م تقريرا مفصلا مدعما بالرسومات والجداول عن إمدادات المياه لكل تلك المشاريع، فذكر على سبيل المثال أن مشروع الملاحة كان يروي بمضخات 14 بوصة تدفع بـ 9.8 مليون متر مكعب من مياه النيل الأبيض.


شركة عائلية (Family Business)

على الرغم من أن السيد عبد الرحمن كان محط اهتمام السلطات الرسمي، إلا أن الدائرة كانت أبعد ما تكون عن كونها "شركة رجل واحد". ولم تكن إدارة شركة (عائلية) بذلك الحجم ممكنة دون ترابط عائلي حميم. وبالفعل كان الأعضاء المؤسسون للشركة أربعة هم: السيد عبد الرحمن وعلي (أخوه الوحيد الذي كان على قيد الحياة وقت تأسيس الشركة) وابن أخيه عبد الله الفاضل، وابن أخ آخر هو الفاضل البشرى.
ويكون الأخ الأكبر في الأحوال العادية هو الوارث الروحي والمادي، غير أن أخ عبد الرحمن المهدي الأكبر علي كان قد آثر بعد أن خرج من سجن رشيد المصري أن يَنْأى بنفسه عن السياسة ويتخلى عن "الإمامة"، وأن يحيا حياة مدنية هادئة في العمل بالخدمة المدنية للحكومة الاستعمارية. وفي عام 1926م تقدم علي المهدي باستقالته من العمل الحكومي ليتفرغ للعمل في خدمة شركه أخيه السيد عبد الرحمن في مكتبها الرئيس بأمدرمان، وقضى في العمل فيها أعواما ثلاثة. وبعد ذلك، وبحسب ما ورد في قاموس ريتشارد هيل عن سير الشخصيات السودانية، ترك علي المهدي العمل بالشركة ليفرغ لجمع التراث الشفاهي لوالده وحركته المهدية. وقال مبارك الفاضل المهدي في مقابلة معه بتاريخ 8/5/2013م على لسان والده: "إننا خرجنا من معركة كرري دون أدنى أمل ... وكان للمهدي ولدان متقاربان في السن ... ورأي علي أن أخاه الأصغر أقدر منه فتنحى له (عن قيادة الأنصار). تصور لو أنه آثر القتال... أين سيكون الأنصار الآن؟"
وكان دور عبد الله الفاضل (في تلك الشركة العائلية) أكثر أهمية، فقد كان هو أكثر أفراد تلك العائلة تعليما. فقد درس في كلية غردون التذكارية أولا، ثم في مدرسة أبي حراز الزراعية بالقرب من سنار. وكان قد فكر، بعد أن انعدمت أمامه الفرص في التوظيف، في الالتحاق بقوة دفاع السودان. وشاور السيد عبد الرحمن في الأمر فطلب عمه منه ألا يفعل، وترجاه كي يبقى بجانبه للعمل على تأسيس شركة تخدم مجتمعهم. ويقول عبد الله الفاضل عن ذلك اللقاء: "كنت أظنه يحلم ... فقد كنا كلنا فقراء، غير أنه كان يرى ما لم أستطع رؤيته حينها". لذا فقد وافق الرجل أن يعمل وكيلا (ممثلا قانونيا) لعمه لمدة 45 عاما متصلة بذل فيها عملا دؤوبا مخلصا. وظل يخدمه بكل تفان حتى بعد أن تقاعد رسميا عن العمل بالدائرة في ديسمبر من عام 1933م. وطفق يقدم النصح والإرشاد وخبرة سنواته الطويلة في العمل الزراعي للعاملين في الدائرة عن طريق النشرات الإرشادية ومذكرات التدريب ومخططات الري وغير ذلك.
لقد كان عبد الله الفاضل هو من قاد الأعمال التجارية (للسيد عبد الرحمن) في السنوات الباكرة، أي قبل أن تظهر رسميا كـ "دائرة المهدي" والتي غدا مديرا عاما لها. وكان في وظيفته تلك يقوم بمهمة تحديد تنقلات العاملين والإشراف علي كافة وكلاء الشركة وتقاريرهم والمكاتبات معهم، وتحصيل الواردات من كل المشاريع، ونظر (monitor) ورصد أسعار القطن وتقلباتها، ومبيعات المحاصيل المختلفة. لقد كان الرجل يقوم بإدارة شركات تدار بأعلى درجات المهنية، وكان يترأس مجلس إدارتها المكون (بحسب ما جاء في كتاب "تاريخ الجزيرة أبا وحياة الإمام عبد الرحمن المهدي" للصادق ضو البيت، الصادر في 2000م) من 11 فردا مع ثلاثة من المفتشين الزراعيين و27 مدراء مشاريع، و13 نظار مشاريع و55 محاسبا ومراجعا، و10 مهندسين ميكانيكيين (مختصين بمضخات المياه والسيارات) و7 مهندسين معماريين و13 من الإداريين والكتبة.
لقد كانت الزراعة بالجزيرة أبا توفر القالب (template) الذي كان يتوزع في أنحائه كل العاملين بمشاريع "دائرة المهدي". ففي المراحل الباكرة كانت هنالك ثلاثة مشاريع فقط هي: الطيبة والرحمانية ودار السلام، على رأس كل مشروع منها مدير مسئول مباشرة أمام عبد الله الفاضل، وينقل أوامره وتوجيهاته للنظار. فعلى سبيل المثال عمل الشيخ عبد الله عبد الله المدني في مشروع دار السلام عام 1934م مشرفا عاما على النظار والعاملين بأربعة مزارع منفصلة.


حزب الأمة: يكمل "مثلث السلطة (The Umma Party: completing the “triangle of power)

بدأ السيد عبد الرحمن، ومنذ نهاية سنوات العشرينيات في تجميع عدد ليس بالقليل من صنف آخر من "الأنصار". وكتب تيم نيبلوك عن ذلك في كتابه عن "الطبقة والسلطة في السودان" ما يلي: "لقد تشكلت وتأثرت توجهات ومواقف وأهداف المتعلمين السودانيين (خاصة كبار الخريجين) بالمؤسسة الدينية/ التجارية". وتمخضت تلك العملية في مايو من عام 1945م عن قيام جناح سياسي للأنصار هو حزب الأمة.
وفي يوم الافتتاح الرسمي لدار حزب الأمة كان حضور وريث إمامة الأنصار، الصديق عبد الرحمن، لافتا لا تخطئه عين. ومن الصواب أن نفترض أن أهداف الحزب الأساس كانت تعكس تماما من بيده مفاتيح الثروة والسلطة. فمبادئ حزب الأمه كانت تتلخص في رسالة وصلت للبريطانيين في يوم 1/5/1945م من أحد مؤسسي الحزب جاء فيها أن "السودان للسودانيين"، وأن هدف حزب الأمة هو "العمل على نيل السودان (بحدوده الجغرافية المعترف بها) لاستقلاله، وفي ذات الوقت الحفاظ على علاقات صداقة مع بريطانيا العظمى ومصر... وما حفزنا على تأسيس هذا الحزب هو شعورنا الملح بأن الوقت قد حان ليجمع الوطنيون السودانيون المسئولون كلمتهم وينظموا أنفسهم لعرض رغبة غالب أهل السودان في الاستقلال، وليس رغبة الأقلية الغبية وغير المسئولة من أهله، والتي تم خداعها بضجيج الدعايات الخارجية. وينبغي عدم الالتفات لهؤلاء المستغلين من قبل مصر، إذ أنهم لا يمثلون رغبات أهل السودان الحقيقية".
ولقد كان المشهد السياسي في سودان ما قبل الاستقلال بالقطع أكثر تعقيدا من مجرد التوصيف التقليدي للصراع الطائفي بين الأنصار والختمية. (وقد أشاد الكاتب هنا بالمؤرخ السوداني حسن أحمد إبراهيم لمقالاته الثلاثة المنشورة في عامي 2002 و2003م بمجلة "دراسات الشرق الأوسط" والمتعلقة بتاريخ وتحليل مواقف السيد عبد الرحمن (وبقية الساسة والزعماء السودانيين) في تلك المرحلة من تاريخ البلاد. صحيح أن كثير من أفراد طائفة الختمية كانوا يظنون أن البريطانيين كانوا يحضرون لتسليم السلطة إلى حزب الأمة، بل خشي بعضهم من تنصيب السيد عبد الرحمن ملكا على السودان. ولذا قاموا بتمتين علاقاتهم بمصر، تماما مثلما فعل كثير من السياسيين الذين كانوا لا يناصرون الختمية ولا يعادون الأنصار. فلجأ بعضهم (مثل الأشقاء) للقبول بأن يحكم السودان ملك مصر. وتمخضت تلك الانشقاقات عن تحالفين: الجبهة الاستقلالية وجبهة الاتحاديين (الذين كانوا يرغبون في الاتحاد مع مصر). وكما هي عادتهم ودأبهم تردد المسئولون البريطانيون، واعتبروا (بعد فوات الأوان) أن الحزب الجمهوري الاشتراكي كان من الممكن أن يكون أفضل خيار للوصول بالسودان إلى تقرير المصير، ربما بسيادة وطنية (dominion status)، ولكن بدون تسميات طائفية محلية.
ومن الصعوبة بمكان فصل شبكة الولاءات المتداخلة التي كان تكون حزب الأمة، غير أنه يمكن وصفها إجمالا بأنها كانت خلطة ذكية جمعت بين أفراد العائلة، وشركاء الأعمال التجارية، وزعماء القبائل المتعاطفة معهم. وذكر تيم نبيلوك في كتابه سالف الذكر أنه من بين نواب حزب الأمة الثلاثة وعشرين في أول برلمان سوداني عام 1954 – 1958م كان لأكثر من نصف عدد أولئك النواب أعمال تجارية ومالية، ولكثير منهم علاقات عائلية. وكان من بين هؤلاء الفاضل البشرى المهدي والفاضل محمد عبد الكريم وإبراهيم إدريس هباني وكمال الدين عبد الله الفاضل ومحمد عبد الباقي المكاشفي والصديق عبد الرحمن المهدي.
وهنا يبرز الدور السياسي البين لدائرة المهدي. وكتب الصديق عبد الرحمن أزرق أن تقدم المزارعين لم يعد مركز اهتمامات الأنصار، أو محور نشاط الآليات الاقتصادية لدائرة المهدي. وهنالك مثال صغير ولكنه يوضح بجلاء النقطة السابقة، وهي رسالة بعث بها مسئول في كوستي في 11 أكتوبر من عام 1948م للخرطوم قبيل مظاهرة كبيرة كان من المزمع القيام بها في الخرطوم. تقول الرسالة: "... فالدائرة منزعجة وقلقة وظلت تمارس ضغطا شديدا علي لإصدار لهم تصريحا بكميات كافية من البنزين لإرسال خمس مركبات (لوراي) معبأة بالشباب من الجزيرة أبا للخرطوم. ولقد قاومت ذلك وقلت لهم إن ذلك غير مبرر في وجود قطار للركاب (في المنطقة)...".
ويمكن تعريف دور دائرة المهدية ببساطة بالقول بأن أعظم إرثها هو تمويل الحركة الاستقلالية. وكاد ذلك الدور يهد موارد العائلة المالية. ولا غرو فقد كانت الحكومة المصرية تمول وبسخاء شديد حملة ضخمة لمؤيدي الاتحاد معها، وترك للدائرة وحدها مهمة التصدي والوقوف ضد تلك الحملة. وبحسب ما قاله مبارك الفاضل المهدي في مقابلته سالفة الذكر فقد اتهم الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل السيد عبد الرحمن بتملق البريطانيين، فرد السيد عبد الرحمن عليه بتشبيه الحكم الثنائي (وهو يحتضر في سنواته الأخيرة) بالحنطور المصري، وسأل هيكل: هل تتوقعني أن أفاوض الحصان أم سائق الحنطور؟ ولكن في عام 1954م، وعشية يوم الاستقلال وبعد الهزيمة المؤلمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات على يد الاتحاديين، وكما ورد في الكتاب الذي حرره دوغلاس جونسون بعنوان "الوثائق البريطانية عند نهاية الإمبراطورية بين 1951 – 1956م" أضطر السيد عبد الرحمن أن يلتمس من البريطانيين منحه قرضا قدره ثمانية مليون جنيها مصريا (بضمان كل ما يملك من عقار) لمواجهة ما كان يتدفق على الاتحاديين من أموال مصرية.

نهاية الدائرة (The end of the Daira)

لم يعمر السيد عبد الرحمن طويلا بعد الاستقلال – غير أنه عاش حتى شهد الفريق إبراهيم عبود يطيح بالحكم الديمقراطي (في 17/11/1958م) في أول انقلاب عسكري في سودان ما بعد الاستقلال. وكان يوم وفاته نقطة تحول خطير في تاريخ العائلة – والبلاد بأسرها. فقد كانت وفاته كما جاء في نعيه بصحيفة التايمز اللندنية يوم 24 مارس 1959م "حادثة سياسية ذات أثر بالغ في قطر بدأ – ومنذ فترة - في إظهار أعراض عدم استقرار واسع النطاق ينبغي مراقبة تداعياته بدقة وحذر... و(لكن) عائلة المهدي عشيرة قوية الترابط، وهذه الحقيقة ربما كانت أفضل ضمان للاستقرار...".
وبقيت بعد وفاة السيد عبد الرحمن ثلاث مهام يكثر حولها الخلاف وهي: إمامة طائفة الأنصار، ورئاسة دائرة المهدي، وقيادة حزب الأمة.
هل يمكن لعبد الله الفاضل (الابن الوحيد للأخ الأكبر للسيد عبد الرحمن) أن يتوقع تنصيبه زعيما للأنصار بعد أكثر من أربعين عاما من الخدمة المخلصة؟ ما حدث (بحسب ما قاله مبارك عبد الله الفاضل في المقابلة سابقة الذكر) هو أن عائلته أصرت أن يتنحى الرجل، ومنحه الصديق عبد الرحمن المهدي سيارة كاديلاك كتعبير عن الشكر على سنوات تلك الخدمة الطويلة الممتازة. ويعارض تلك الرواية أنصار آخرون. فقد حكى الصحافي محمد خير بدوي في مقابلة معه في 14 مارس 2013م أنه، وفي ذروة احتدام الجدال والنزاع حول من هو أحق بزعامة الأنصار، لم يتمالك أحد الوسطاء بين الطرفين المتخاصمين (وهو محمد إبراهيم النور نائب رئيس المحكمة العليا) نفسه ورفع صوته مجهشا بالبكاء وهو يكرر ما قاله عبد الله الفاضل بعد هزيمته وفشله في أن ينصب إماما للأنصار: "مهمتي في هذا العالم أن أدمر بيت السيد عبد الرحمن".
وورث الصديق (والذي ظل بجانب والده طيلة حياته تقريبا) الزعامات الثلاث: إمامة طائفة الأنصار، ورئاسة دائرة المهدي، وقيادة حزب الأمة. أكان (كما تساءلت صحيفة التايمز اللندنية في نعيه) بمقدوره الحفاظ على وحدة العشيرة إن لم يرحل عن الدنيا أثر أزمة قلبية في عام 1961م ولما يبلغ الخمسين من العمر؟ يصر المعجبون به على أنه كان سيكون سدا منيعا يحافظ على وحدة الطائفة والحزب. وكتب عنه محمد خير البدوي في كتابه "قطار العمر" أن الصديق كان رجلا ذكيا حكيما، وإن كان قد كتب له مزيد من العمر فقد كان سيفوق والده في العظمة – أو حتى جده. وضرب لذلك مثلا عندما اصطدم الأنصار برجال الشرطة في يوم المولد النبوي في أمدرمان وسالت الدماء من الطرفين، وطلب منه بعض من حوله السماح لهم بالقيام بانتفاضة عارمة ضد الحكومة، فأجابهم الصديق بما يفيد أن له "... عهدا عند الأنصار، ويعلم الله أنني لن أدعهم يقتلون. سيكون من العار علي أن لقيت خالقي وفي عنقي نقطة دم أنصاري واحدة تسفك دون وجه حق...". وأعاد الصديق نفس المعني ولكن بلغة أقل عاطفية حين صرح لصحيفة الديلي تلغراف يوم 12 /4/ 1960م بالقول: "إنني الرجل الوحيد الذي بمقدوره التمرد أو إشعال الحرب ضد العسكر...غير أني لن أفعل".
وعقب وفاة الصديق بدأ تآكل لحمة العشيرة. وكان الرجل قد أوصى – وببصيرة نافذة - بأن يتولى مجلس مكون من خمسة أفراد من أقرب أقربائه (وهم الهادي المهدي وعبد الله الفاضل ويحي المهدي وأحمد المهدي والصادق المهدي) مهمة اختيار خليفته من بعده. واشترط أن يحظى اختيارهم بمباركة الأنصار. غير أن تسنم الهادي المهدي لإمامة الأنصار نزغ بينهم وأحدث شقاقا بين الهادي وابن أخيه الصادق الصديق، وأنقسم حزب الأمة على إثر ذلك لجناحين، وترنحت في تلك الأيام "دائرة المهدي" وتراكمت عليها - مع مرور سنوات الصراعات السياسية السابقة - ديون ثقيلة. ولما قربت النهاية، أسقطت أيضا معها الهادي نفسه. فقد قاد النميري انقلابا عسكريا في 25 مايو 1969م عارضه، ومنذ يومه الأول، الهادي مما أدى لصراع عسكري بين حكام السودان الجدد والأنصار في الجزيرة أبا. وكانت الغلبة في ذلك الصراع الدامي لنميري وجنده، وغربت (في بدايات حكم النميري) شمس الأنصار وزالت سلطتهم.
وأتت "ثورة مايو" بمصطلحين في صيف عام 1970م قضيا على ما تبقى من "دائرة المهدي" وهما "الحراسات العامة" و"الإصلاح الزراعي". وصرح أحمد سليمان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة نميري (الثورية) الأولى في بيان صدر بمناسبة مصادرة الشركات المصدرة للقطن بأن سياسات التأميم والمصادرة (والتي شملت أيضا كثيرا من المرافق والشركات والأعمال الأخرى) نفذت لتجني جماهير الشعب – في النهاية - ثمار جهدها والذي كان يذهب لحفنة من التجار". وصدرت على عجل قوانين جديدة عن المكتب المركزي للرقابة العامة للإسراع بإكمال عمليات المصادرة تلك. وكان الصراع بين الحكومة والأنصار محتوما. وهذا ما حدث وكان عنيفا وسريعا ودموي الطابع. غير أن تفاصيل ذلك الصراع ظل موضوعا للخلاف. فكتب منصور خالد في مؤلفه عن نميري وثورته بأن الأنصار كان يبالغون في خسائرهم، بينما كانت الحكومة تبالغ في قوة تسليح الأنصار. غير أنه من المؤكد أن عددا كبيرا من سكان الجزيرة أبا يقدر بالآلاف قد قتلوا في القصف الجوي والهجوم البري على الجزيرة أبا (رغم أن الكاتب دأب على توثيق كل معلومة يأتي بها بمرجع أو مرجعين، إلا أن النقطة الأخيرة هذه أتت دون مرجع لها. المترجم)، وقتل الأمام الهادي في ظروف غامضة أثناء محاولته الخروج من البلاد عبر الحدود الإثيوبية. وفقدت عشيرة المهدي إماما آخر وهو لما يبلغ الخمسين من عمره.
أما "دائرة المهدي" فقد ماتت في عام 1970م، ودمرت تماما بعد مصادرتها وفقدت كل وثائقها ومذكراتها وأرشيفها. ورغم أن أملاك العائلة أرجعت لهم في سنوات لاحقة، إلا أن قلب الدائرة النابض (وهي المشاريع الزراعية) والتي بناها السيد عبد الرحمن بشق الأنفس وعلى مدى سنوات طويلة كانت قد دمرت جميعا. وتمخض "الإصلاح الزراعي" عن "شلل زراعي" ماتت على إثره كل مشاريع النيل الأبيض. فبحسب تقدير الصادق المهدي فإن المساحة المزروعة الآن في هذه المشاريع تقل كثيرا جدا عن المساحات التي كانت تزرع في أيام "دائرة المهدي"، وانخفض أيضا ما تنتجه الأرض. فعلى سبيل المثال كان الفدان ينتج في موسم 1969 – 1970م (أي قبل المصادرة مباشرة) نحو 6 قناطير من القطن، وبعد عقد من الزمان (أي في موسم 1979 – 1980م) صار الفدان ينتج نصف قنطار فقط. وانخفض سكان المنطقة من 60 الفا إلى 40 الفا.
غير أن الجزيرة أبا (في رأي الصادق المهدي) ما زالت تحتفظ بصفتها القديمة كمعقل للأنصار، تماما كما كانت في الماضي، وما زال بعض هؤلاء الأنصار (ممن لم يستوعبهم حكام السودان العسكريون) يؤملون في أن يأتي يوم يعودون فيه لتسنم قيادة البلاد. ولكن من غير المحتمل أن يقوم أحد منهم بعمل يضارع العمل الذي قام به مؤسس تلك العشيرة العظيمة السيد عبد الرحمن المهدي و"دائرة المهدي" التي شيدها.


إضافة رد


أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 11:32 AM بتوقيت مسقط

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
الاتصال بنا شبكة ومنتديات وادي شعير الأرشيف ستايل من تصميم ابو راشد مشرف عام منتديات المودة www.mwadah.com لعرض معلومات الموقع في أليكسا الأعلى