.::||[ آخر المشاركات ]||::.
كتب صديق عبد الهادي: بعض قضايا... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 10164 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 8973 ]       »     بمزيد من الحزن والأسى تنعى منت... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4279 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 3966 ]       »     كتب صديق عبد الهادي: وما الذي ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 12860 ]       »     من الواتساب: أقوال منسوبة للشي... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4962 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4447 ]       »     الراكوبة: لجنة للتحقيق في بيع ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 2 - عدد المشاهدات : 9408 ]       »     الراكوبة: تكوين لجنة تمهيدية ل... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 6933 ]       »     الراكوبة: محافظ مشروع الجزيرة ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 2 - عدد المشاهدات : 8774 ]       »    



الإهداءات

العودة   منتديات وادي شعير الأقسام العامة منتدى السياسة والفكر والأدب

إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.65 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان (1 – 2) .. منقول
قديم بتاريخ : 09-07-2018 الساعة : 10:20 AM

عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان (1 – 2) ..
Holy Families and Islam in the Sudan (1 -2)
بيتر هولت Peter M. Holt

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
++++
تقديم:
هذه ترجمة وتلخيص لمقال طويل لبروفيسور بيتر هولت عن " عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان" تم نشره ككتيب صغير في عام 1967م ضمن سلسة "أوراق الشرق الأدنى" التي أصدرتها جامعة بريستون. وكان المقال قد قُدم في شكل محاضرة ألقاها الكاتب ضمن برنامج دراسات الشرق الأدنى بجامعة بريستون في يوم 11/10/1966م.
عين البروفسور المؤرخ هولت (1918 – 2006م) عقب تخرجه في جامعة أكسفورد أستاذا للتاريخ بالمدارس الثانوية السودانية، ثم عمل مفتشا بين عامي 1941 – 1953م. وأنشأ من بعد ذلك دار الوثائق وترأسها، وعمل محاضرا غير متفرغ في جامعة الخرطوم بين عامي 1952 – 1953م. وعاد بعد ذلك إلى بلاده وعمل في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بين عامي1955 1982 –م إلى حين تقاعده.
ونشر الرجل في خلال مسيرته الأكاديمية أعمالا أصيلة عديدة عن تاريخ السودان (خاصة في عهد المهدية) ومصر (في عهد المماليك) وسوريا، وشارك في كتابة فصل عن العرب والإسلام في موسوعة كمبردج عن الاسلام. صدر آخر كتاب له في عام 1999م عن مملكة الفونج بعنوان:
The Sudan of the Three Niles: The Funj Chronicle 910-1288/1504-1871.
تعلم هولت اللغة العربية في غضون سنواته في السودان، وترجم كتابين من الألمانية والفرنسية (انظر نعي بروفيسور هولت في صحيفة الاندبندنت (http://www.independent.co.uk/news/ob...lt-426133.html)
******* ******* ******** *******
لقد كانت عملية أسلمة السودان النيلي (ولا تزال في الواقع) عملية مستمرة. ومنذ فتح العرب لمصر في بداية القرن السابع الميلادي كانت مناطق النوبة وصعيد مصر على صلة بالإسلام. وفي خلال الـ 1300 سنة الأخيرة كانت طلائع أسلمة البلاد قد تقدمت على شاطئ النيل جنوبا على مراحل محددة تاريخيا. وكانت إحدى تلك المراحل قد بدأت في القرن الرابع عشر عندما بدأت مملكة النوبة الشمالية (في المقرة) التي كانت تتخذ من دنقلا القديمة عاصمة لها في الاضمحلال التدريجي وهجر المسيحية، وبدأت في الانقسام إلى إمارات مستعربة. وتبع ذلك عصر ظلامي. ثم أقبل بعده عصر تم فيه توثيق تاريخي واضح في القرن السادس عشر، ظهرت فيه مملكة النوبة الجنوبية (علوة) التي كانت عاصمتها سوبا قرب مدينة الخرطوم الحديثة. وبدأت القبائل العربية في الزحف جنوبا إلى منطقة الجزيرة (بين النيلين الأزرق والأبيض). إلا أن العرب أنفسهم كانوا تحت سيطرة كبار السادة من غير العرب مثل الفونج، وهم قوم سود موطنهم الأساس هو مناطق أعالي النيل الأزرق (رغم أن أصلهم مختلف عليه بين الباحثين). وسرعان ما تم إدخالهم في الإسلام، وسادوا كل المناطق الإسلامية في الجنوب حتى خط 13 درجة شمالا، على الأقل اسميا حتى جاء الغزو التركي – المصري. وأنجز ذلك الحكم في خلال تلك الفترة التي استمرت لثلاثة عقود عملية أسلمة شمال السودان. وهي ذات الفترة التي أسست وأكدت فيها عائلات الأولياء الصالحين الأقدم على وجودها.
• أين تكمن تلك "القداسة" المنسوبة لتلك العائلات؟
• ومن هم أفراد تلك العائلات؟
يعمل هؤلاء في المقام الأول كوكلاء لنقل ونشر العقيدة الإسلامية، وما يتبعها من شرائع (مقدسة) وثقافة إسلامية. وعرف هؤلاء أيضا، في المقام الثاني، بحيازتهم على "بركة" (عُرفت في الموسوعة الإسلامية بأنها: " قوة نافعة ربانية المنشأ تسبب نَّماءً وزيادةً وكثرةً في الخير على المستوى المادي، ورخاء وسعادة على المستوى الروحي". والبركة أمر متوارث، وادعاء الحصول عليها يرتبط دوما بالانتماء إلى "الأشراف"، أي الانتساب للعترة النبوية (الشريفة). لذا تأتي البركة من ذلك المصدر الأرفع. غير أن الادعاءات بنسب ينتمي للأشراف، وحيازة البركة ليست أمورا اعتباطية أو ادعاءات غير مبررة كما تبدو، ولكنها شديدة الارتباط بـ "الوظيفة function". وهي في الحقيقة ضرب من الآليات المؤكدة لافتراض أداء دور معين في المجتمع الإسلامي التقليدي. ويتضح هذا من دراسة أصل نسب الولي السوداني محمد بن سرور، الذي عاش في القرن السابع عشر. كان لذلك الولي أصل جعلي، وتتبع عائلته شجرة نسب اسطورية جعلية معتادة، حيث ينتسب إلى العباس، عم النبي، والذي تسمى به حكام العهد العباسي. ولما أدى محمد بن سرور دور الولي (حيث بدأ بالطريقة الصوفية القادرية، وأقام له مسجدا دفن في فنائه لاحقا، وصار يؤم قبره المريدون) جرت محاولة لتضع على سيرته الباذخة ونسبه المعروف أصلا شريفيا يعود إلى النبي محمد. وخلق ذلك بعض الإشكال، مما دعا البعض لاقتراح حلول بديلة لذلك التعارض. وكان أحد تلك الحلول هو أن نسبه يمتد للرسول عن طريق بعض الإناث في العائلة. وذكر عبد المحمود نور الدائم في نسخة "أزاهير الرياض" المنشورة عام 1963م أن نسب محمد بن سرور للعترة النبوية سببه هو أن الرسول تبناه روحيا في رؤية منامية.
لا شك في أن المصدر الرئيس للمعلومات عن عائلات الأولياء الصالحين القدامى في السودان هو طبقات محمد النور ود ضيف الله التي ألفها (أو بالأصح جمعها) في السنوات الأولى للقرن التاسع عشر. تولى كاتب كتاب "الطبقات" القضاء، وكان من عائلة لها صلة بمسجد حلفاية الملوك، تلك القرية التي اتخذها شيوخ العبدلاب سكنا. والعبدلاب هم حكام القبائل العربية الذين شاركوا سلاطين الفونج حكم البلاد. وقدم ود ضيف الله نُبُذات عن نحو ثلاثمائة من الأولياء. وتجد أن تاريخ سير كثير من هؤلاء يمتد إلى أجيال كثيرة. وكانت إحدى تلك العائلات قد بدأ تاريخها في بدايات القرن الخامس عشر (أي قبل تأسيس سلطنة الفونج) برجل يقال له غلام الله بن عايد، وله في "الطبقات" نسب يمتد عبر 11 جيلا إلى منتصف القرن الثامن عشر (أشار هولت هنا إلى دراسته المستفيضة لتلك العائلة والتي أتت تحت عنوان "أبناء جابر وأقربائهم" المنشورة عام 1967م في مجلة Bull. School Oriental and African Studies، وأورد نصوصا منها تفيد أن نسب غلام الله نسب شريف يمتد إلى أبي طالب عم النبي، وأن بعض جدوده عاشوا في زيلع على ساحل الصومال، وأنه كان يتمتع ببركة خاصة، وله قدرة على عمل خوارق ومعجزات. المترجم).
وكانت الأجيال الأربعة التالية لتلك العائلة تتكون من بعض الشخصيات الغامضة، إلا أن الحكايات المتعلقة بهم تعكس بعض المشاكل في زواجهم وفي وضعهم الاجتماعي، والتي كثيرا ما تقابل المسلمين في مجتمع كان ما يزال لم يتأسلم إلا جزئيا. وأدت تلك العائلة أدوارا إيجابية في إدخال الإسلام للسودان النيلي لم تظهر مجددا إلا عند الجيل الخامس بعد غلام الله مع "أبناء جاير" الأربعة، الذين لهم تاريخ معروف وسيرة يمكن التحقق منها. فقد درس ثلاثة من هؤلاء الأبناء في الأزهر على يد أحد قضاة المالكية، هو الشيخ محمد البنوفري في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وكان واحدا منهم (واسمه إبراهيم البولاد) قد أقام في حوالي عام 1570م مدرسة (خلوة؟) في مناطق الشايقية لتدريس الفقه والشريعة على هدى المذهب المالكي. وبعد وفاته واصل اثنان من إخوته في التدريس بتلك المدرسة، وأعقبهما ابن أخيه أو ابن اخته nephew. وفي تلك الأعوام ازدادت تلك العائلة ثراءً ماديا ورفعة اجتماعية. وكان لأحد أبناء العائلة حرسا شخصيا مكونا من أربعين عبدا يحملون السيوف. وتزوج ابن أخيه أو ابن اخته من إحدى ملكات الشايقية. وكان لتلك الزيجة نتائج لم تكن في الحسبان، إذ كانت تلك الملكة قد طلبت من زوجها نقل مدرسته إلى بيتها. واحتج الطلاب على ذلك بدعوى أن في بيتها خادمات جميلات لا بد أنهن سيختلطن بهم في رواحهن وغدوهن، وهذا من شأنه إفساد دينهم عليهم. وهجر الطلاب مدرسة الشيخ مما أضطره لقفلها.
غير أن ذلك لم يمثل نهاية دور تلك العائلة في أسلمة السودان، إذ كان لأبناء جابر شقيقة تدعى فاطمة (بنت جابر البولادي)، ذكر صاحب "الطبقات" أنها كانت تماثل إخوانها في العلم والتدين. ولا شك أنه كان لديها أيضا مثل "بركة" بقية إخوانها. فعلى سبيل المثال كان ملك الشايقية قد توعد أحد أولادها (واسمه محمد صغيرون) وهدده بالقتل، فدعت عليه الشيخة فاطمة فوقع الملك من على ظهر حصانه مغشيا عليه. وورث محمد صغيرون سمعة "أولاد جابر" الاكاديمية، ولا غرو، إذ كان قد درس العلم على يد أعمامه / أخواله، وتلقى العلم في الأزهر على يد البنفوري. وترك الرجل ديار الشايقية وأتجه جنوبا عبر النيل - تحت حماية سلطان الفونج – في العقد الثاني من القرن السابع عشر إلى مملكة الجعليين في منطقة تقع جنوب التقاء نهر أتبرا بنهر النيل. وفي تلك المنطقة أقام له مدرسة (خلوة؟) في الفجيجة الواقعة على شاطئ النيل. وكانت تلك منطقة غابات تمت إزالتها لإقامة القرية. وتواصلت بعد وفاته تلك المدرسة، على الأقل حتى منتصف القرن الثامن عشر.
وكانت هنالك أفرع أخرى للعائلة منها نسل أمينة، بنت فاطمة، وأخت صغيرون. وانتقل هؤلاء من مدرسة الفجيجة وأقاموا لهم مدارس في أماكن أخرى، إلا أن مركز نشاطهم كان في شندي، حاضرة الجعليين. وأرتحل أحد أبناء تلك العائلة جنوبا إلى منطقة في النيل الأزرق قرب ود مدني.
لقد أدت العائلة التي عرضنا لشيء يسير من تاريخها دورا بارزا في أسلمة السودان النيلي. ولقد عرض كتاب "الطبقات" ببعض الاستفاضة والوضوح لمساهمتهم في التعليم الديني والقضاء الشرعي. وفي ذات الوقت اتضح (مما ذكر في "الطبقات") أنهم كانوا يعيشون على رأس مالهم الثقافي. ولعل الدليل على ذلك هو الغموض الذي يحيط بالأجيال الأربعة التي تلت غلام الله، وعدم وجود ذكر لأي واحد منهم درس في مصر من بعد صغيرون. ولم تحل "البركة" على أي منهم إلا لماما، على شكل قوة سحرية. وكان حفيد غلام الله (وصغيرون) أيضا يعالجون الناس بالرُقْيات والتعاويذ. وجاء في "الطبقات" أيضا أن بلال (أحد حفدة صغيرون) أنه لم ينطق قط بكلمة لعن واحدة ضد أي أحد سبب له ضررا وهو يقف أمام قبر جده صغيرون. إلا أنه أضاف أن كل من سبب له ضررا تدمر بسرعة. وظهر بلال في إحدى الحكايات وهو يقوم باستحضار الأرواح.
وأعد عائلة غلام الله ونسله من بعده خير مثال لعائلة كان مصدر شهرتها الأول هو قيامها بعبء تعليم الناس مبادئ الدين، وتولي القضاء.
أما عائلات الأولياء الآخرين فقد كانت أهميتهم الأساس تكمن في تقديمهم لقادة طرق صوفية. وأحد تلك العائلات هم اليعقوباب. ومنشئ تلك العائلة هو بانقا محمد الضرير، والذي ينتسب للفونج من ناحية والدته. وقد انتسب الرجل للطريقة القادرية في حوالي منتصف القرن السادس عشر عن طريق صوفي رحالة من بغداد. ويمكن تتبع نسله عبر ستة أجيال إلى بدايات القرن التاسع عشر. وأقام فرع من عائلة اليعقوباب في مناطق الجعليين، نافسوا فيها أحفاد صغيرون.
وأدت بعض العائلات الدينية دورين مهمين في آن معا، وهما دور التعليم الديني، ودور زعامة الطرق الصوفية. ويصعب دوما في الواقع التفريق أو الفصل بين الدورين في إسلام السودانيين. ويتضح ذلك في الاستخدام اللغوي. فالكلمة الدارجة للمعلم (سواء أن كان في مجال التعليم أو في مجال الطرق الصوفية) هي كلمة "فكي" (وهي مأخوذة من الكلمة العربية "فقيه" بمعنى العالم بأصَول الشريعة وأحكامها، أو مَنْ يقرأ القرآنَ ويعلِّمه). وجمع كلمة "فكي" هي "فقرا"، وهي قد تعني أيضا دراويش الطرق الصوفية. والكلمة الدارجة للمدرسة الدينية هي "الخلوة"، وعند الصوفيين هي المعتزل (جاء في تفسير الخلوة عند الصوفية أنها فترة "ينفرد بها المريد ليتفرغ لذكر الله تعالى بأية صيغة كانت، أو لتلاوة القرآن الكريم أو محاسبة نفسه أو ليتفكر في خلق السماوات والأرض". المترجم).
ومن الأمثلة الأخرى التي تستحق الذكر لعائلة أدت ذلك الدور المزدوج (دور التعليم الديني، ودور زعامة الطرق الصوفية) هي عائلة المجاذيب في الدامر، جنوب مكان التقاء نهر أتبرا بنهر النيل. وكان مؤسس تلك العائلة هو حمد بن المجذوب المتوفى في عام 1776 أو 1777م عن عمر ناهز 85 سنة. وهو رجل دارس للعلوم الدينية، وقد أدى فريضة الحج، وانتسب للطريقتين الشاذلية والقادرية. عمل حمد معلما وفقهيا مفتيا يصدر الفتاوى والأحكام. وأنشأ أفراد عائلته محليا فرعا لطريقة شيخهم سموها "المجدوبية".
وترك لنا الرحالة السويسري جون لويس بيركهاردت (الذي زار الدامر عام 1814م) وصفا مدهشا للمدينة وهي تحت إدارة حفيد حمد بن المجذوب. ويلقي وصفه للمدينة الضوء على كثير من الجوانب الخاصة بدور عائلة الأولياء الصالحين:
"تعد الدامر قرية كبيرة أو مدينة صغيرة بها نحو 500 بيت. وهي نظيفة ومرتبة بأكثر مما يشاهد في بربر، إذ أن بها مبانٍ حديثة، وتخلو من الأطلال والخرابات. وغالب بيوت المديمة مبنية بطريقة منتظمة، وبها شوارع مستقيمة، وتوجد بها الأشجار الظليلة في أماكن كثيرة. وتسكنها قبيلة عربية هي "المجاذيب"، التي ينسب أفرادها أصلهم للجزيرة العربية. ومعظم هؤلاء من "الفقرا". وليس للسكان شيخ، ولكن لديهم من يطلقون عليه "الفكي الكبير"، هو رئيسهم الفعلي الذي يقضي بينهم ويفصل في كل منازعاتهم.
واشتهرت عائلة المجاذيب بوجود العديد من المعالجين الروحيين (في الأصل "محضري الأرواح") وأصحاب المعجزات والكرامات، الذين لا يخفى عليهم شيء، وليس بمقدور أحد مقاومة تعاويذهم.
وبالدامر عدة مدارس يقبل عليها الطلاب من مناطق مختلفة شملت دارفور وسنار وكردفان وأجزاء أخرى من السودان، ليتلقوا علوما دينية تؤهلهم للعودة لبلادهم والعمل (فكيا) في مجال التعليم الديني والقضاء والافتاء في بلادهم. وكان يوجد عند علماء الدامر العديد من الكتب المؤلفة في مواضيع فقهية وشرعية جلبها من مصر ومكة طلاب المجاذيب الذين كان يدرسون في الأزهر أو الجامع المكي الكبير لنحو ثلاث أو أربع سنوات. وكان معظمهم يعيش في مصر أو الحجاز على إعانات أو صدقات من محسنين.
ويبدو أن شؤون تلك (الدولة التراتيبية / الهرمية الصغيرة) تدار بحكمة بالغة. فقد كان كل جيرانها ينظرون بعين الاحترام لفكيا الدامر، بل كان يهابهم ويحترمهم حتى أفراد البشاريين المَخُوفٌي الجانب (في الأصل الغُدَّارٌ treacherous. المترجم)، فلم يتعرض منهم أحد قط لسكان الدامر بسوء في حلهم وترحالهم إلى سواكن. وكانوا يخشون من أن يقوم فكيا الدامر بوقف المطر عن مناطقهم مما سيفضي لنفوق بهائمهم. ... وتوجد بالدامر وعلى الطريق المؤدية إليها العديد من الآبار العامة".
وعلى الرغم من أن الوظيفة الرئيسة لعائلات الأولياء الصالحين كانت هي نقل ونشر الدين والثقافة الإسلامية، إلا أنهم كانوا (كما أبانت القطعة التي اقتطفناها من كتاب بيركهاردت) يمارسون أدورا سياسية واقتصادية في المجتمع السوداني. وكانت هيمنة سلطنة الفونج، التي ازدهت عائلات الأولياء الصالحين في غضون سنواتها، بالغة الهشاشة. ولم تكن سيطرتها، فيما عدا مركزها في منطقة سنار وجنوب النيل الأزرق، إلا سيطرة متراخية يعوزها الثبات. وكانت الخلافات والنزاعات الداخلية بين أفراد السلالة الحاكمة في سنار قد أضعفت السلطنة. ولا تعرف طبيعة تلك الخلافات والنزاعات. وفي عام 1762م أزاح وزير قوي آخر سلطان فعلي، وعين نفسه سلطانا جديدا على الفونج. ولكن بعد وفاته صارت وصاية الهمج على السلطنة فريسة للنزاعات الدموية. وعندما غزت قوات محمد علي باشا السودان، كانت سلطنة الفونج قد تفتت إلى عدة ممالك قبلية متنافرة.
وعلى نقيض ذلك الضعف والتفتت الذي حاق بسلطات السلالة الحاكمة في سنار، اكتسبت عائلات الأولياء الصالحين قوة وهيبة متزايدة، للحد الذي جعلهم هم الركن الداعم والسند الحقيقي للمجتمع السوداني. فقد صار للفكيا (باعتبارهم رجال الدين وحماته) أدوارا غير منكورة في الشفاعة والوسطاء (بين الفرقاء). ومن خير الأمثلة على تلك الشفاعة والوساطة التي قام بها الشيخ الصوفي الأكبر إدريس ود الأرباب عند هزيمة وقتل عدلان الأول سلطان الفونج للشيخ العبدلابي عجيب (المانجلك) الذي تمرد عليه. وكان ابن الشيخ عجيب قد فر بعد تلك المَقْتَلَة إلى دنقلا. غير أن الشيخ إدريس تدخل في النزاع وتَشَفَّعَ له عند السلطان عدلان فعفا عنه وأعاده لمنصبه. وكان الفكي في بعض الأماكن والأزمنة التي تضعف فيها قبضة الحكام السياسيون يتولى السلطة الفعلية بنفسه. فعلى سبيل المثال نصب حسن ود حسونة، وهو حفيد مهاجر مغربي، نفسه زعيما للرُحل في أطراف سلطنة الفونج الشرقية. وكانت له حاشية مكونة من عدد من العبيد المسلحين، وآخرين يقومون على شؤون داره. وكان بذلك يحاكي ما تحت سلطان الفونج من خدم وحشم. وتوفي الرجل في 1664 أو 1665م بعد أن ارتدت طلقة نارية من مسدس كان يحمله إلى جسده. ولعل ذلك كان أول حادث مسجل لامتلاك سلاح ناري في السودان.
وكان النفوذ السياسي لحسن ود حسونة نفوذا شخصيا محضا، إذ أنه انقضى بموته. وهنالك ما يكفي من الأدلة على أن عائلات الأولياء الصالحين في المناطق النيلية كانت تقوي من وضعها، ربما على حساب سلالة الفونج، عن طريق حيازة الأراضي التي كان يمنحها لهم سلاطين الفونج. وكانت تلك الحيازات تُمنح لهم بعقود رسمية نظامية (وقد نشر صادق نور بعضها عام 1956م في العدد الرابع من مجلة كوش Kush في ورقة بعنوان "حيازة الأراضي في غضون عهد الفونج". المترجم). ولم توضع تلك الحيازات ك "وقف"، إذ أن مفهوم الأوقاف لم يكن معروفا في السودان قبل الحكم التركي – المصري، ولكنها أعطيت ك "هدايا مجانية" أو على سبيل الصدقة.
لقد كانت عائلة المجاذيب هي أكثر عائلة أصابت نجاحا كبيرا في الحصول على سلطة سياسية. فقد أقامت لها – كما رأينا من كتابات الرحالة بيركهاردت - في نهايات القرن الثامن عشر مقاطعة ثيوقراطية في الدامر. وكانت الدامر من ناحية نظرية جزءً من مملكة الجعليين التي كانت تقع تحت سيطرة العبدلاب (المكون العربي من سلطنة الفونج، من نسل عجيب المانجلك). غير أن حاكم الدامر كان بلا شك – وكما ذكر بيركهاردت – هو الفكي الكبير.
وكان بيركهاردت قد ألمح أيضا للدور الاقتصادي لعائلة المجاذيب. فقد عملوا على إبقاء الطرق التجارية مفتوحة، خاصة تلك المؤدية إلى ميناء سواكن على البحر الأحمر، وكان ذلك يعتمد على "بركة" يعتقدها الناس فيهم. وألقت إشارة بيركهاردت للنشاط التجاري الذي يمارسه فكيا المجاذيب بأنفسهم بعض الضوء على واحدة أو اثنين من الروايات التي وردت في كتاب "الطبقات". فقد ورد فيه أنه كان يُطلق على حمودة بن التنقار(وهو أحد أبناء أخت صغيرون) على سبيل التحبب "جياب العجوة من الريف". (ورد في كتاب الطبقات عن حمودة ما نصه: " حمــــــــودة بن التنقار المشهور بجياب العجوة من الريف، وأمه بنت سرحان وأمها فاطمة بنت جابر، وتفقه على خاله الفقيه محمد بن سرحان، وسبب إتيان العجوة أن خاله محمد بن سرحان مرض قيل له: "شفاك في العجوة"، وكانت مفقودة في البلد، فجابها حمودة رضي الله عنه من الريف وكانت سبب شفائه، وشرح على خليل حاشية مفيدة فيها سورة (؟) خاله وأولاد جابر. المترجم).
وهناك أيضا رواية في "الطبقات" عن أنه كانت لأحد أحفاد صغيرون، واسمه أبو الحسن (المتوفى في عام 1720 أو 1721م) علاقة صداقة وود مع فكيين من نوري ببلاد الشايقية. وكانا يأتيانه كل عام بهدايا من ثمار الشمالية مثل التمر والدوم، ويهديهما هو بعض الأقمشة المنسوجة والثيران لحرث الأرض. وفي كل من الحكايتين يتبين لنا أنه كانت هنالك تجارة منتظمة تتم بين الشمال والجنوب عبر النيل، تحت إشراف رجال دين من ذوي الهيبة والمكانة العالية.
ومثل تفتت سلطنة الفونج، وقيام حكم مستقل للهمج في أواخر القرن الثامن عشر إرهاصات بدء مرحلة تميزت بتغييرات عميقة وزعزعة شديدة في استقرار السودان. ومثل غزو محمد علي باشا في عامي 1820 و1821م بداية جديدة لإدارة مركزية وقوية كان السودانيون قد عرفوها من قبل. وبدأ الأوربيون (بطريق غير مباشر) في البدء بالتأثير على "تلك الشعوب البعيدة". وأفضى فتح مسار النيل الأبيض وبحر الغزال في تحريك حدود المناطق الإسلامية جنوبا بعد ثلاثة قرون من الاستقرار، وهو الأمر الذي أدى إلى نتائج لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.
وبالإضافة إلى تلك التغيرات السياسية، حدثت أيضا تغيرات في الحياة الدينية بالسودان كانت تعكس التحركات الإسلامية في خارج السودان. فقد شهد القرن الثامن عشر حركة إحياء للصوفية، خاصة في الأقاليم العربية التي ضمتها اليها الإمبراطورية العثمانية. وتوسع نشاط كثير من الطرق، مثل الطريقة النقشبندية التي أسسها عبد الغني النابلسي في دمشق. وانتشرت أيضا الطريقة الخلوتية على يد شيخ آخر من دمشق هو مصطفى البكري الصدقي. وظهرت في الحجاز طريقة صوفية جديدة هي السمانية، نسبة إلى مؤسسها الشيخ محمد بن الكريم السمان.
+++

[email protected]



عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.65 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 2  
كاتب الموضوع : عمر محمد الأمين المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان (2 – 2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
قديم بتاريخ : 09-15-2018 الساعة : 01:58 PM

عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان (2 – 2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان (2 – 2) ..
Holy Families and Islam in the Sudan (2 -2)
بيتر هولت Peter M. Holt
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
++++
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني والأخير من مقال طويل لبروفيسور بيتر هولت عن "عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان" تم نشره ككتيب صغير في عام 1967م ضمن سلسة "أوراق الشرق الأدنى" التي أصدرتها جامعة بريستون. وكان المقال قد قُدم في شكل محاضرة ألقاها الكاتب ضمن برنامج دراسات الشرق الأدنى بجامعة بريستون في يوم 11/10/1966م.
عين البروفسور المؤرخ هولت (1918 – 2006م) عقب تخرجه في جامعة أكسفورد أستاذا للتاريخ بالمدارس الثانوية السودانية، ثم عمل مفتشا بين عامي 1941 – 1953م. وأنشأ من بعد ذلك دار الوثائق وترأسها، وعمل محاضرا غير متفرغ في جامعة الخرطوم بين عامي 1952 – 1953م. وعاد بعد ذلك إلى بلاده وعمل في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بين عامي 1955 – 1982م إلى حين تقاعده. ونشر الرجل في خلال مسيرته الأكاديمية أعمالا أصيلة عديدة عن تاريخ السودان (خاصة في عهد المهدية) ومصر (في عهد المماليك) وسوريا، وشارك في كتابة فصل عن العرب والإسلام في موسوعة كمبردج عن الاسلام. صدر آخر كتاب له في عام 1999م عن مملكة الفونج بعنوان:
The Sudan of the Three Niles: The Funj Chronicle 910-1288/1504-1871.
تعلم هولت اللغة العربية في غضون سنواته في السودان، وترجم كتابين من الألمانية والفرنسية (انظر نعي بروفيسور هولت في صحيفة الاندبندنت (http://www.independent.co.uk/news/ob...lt-426133.html)
******* ******* ******** *******
دخلت الطريقة السمانية السودان النيلي على يد رجل يقال له الشيخ أحمد الطيب بن البشير (المولود في عام 1742 أو 1743م)، كان قد التحق بتلك الطريقة في المدينة على يد مؤسسها (الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان) في عام 1758م. والشيخ أحمد الطيب بن البشير هو ابن حفيد الولي الصالح محمد بن سرور، الذي أتينا آنفا على صعوبة تتبع أصل سلالته. وبذا يعتبر الشيخ أحمد الطيب بن البشير من عائلة أولياء صالحين راسخة ولكنها صغيرة نسبيا وغير مشهورة، إذ أنه لم يرد من أفرادها في كتاب "الطبقات" غير محمد بن سرور. غير أن تلك العائلة وجدت في عهد الشيخ الطيب انتشارا جديدا وقويا، فاق ذلك الذي صادفه نسل غلام الله الذين أتوا بعد أبناء جابر الأربعة.
وآب الشيخ الطيب للسودان قُبَيلَ عام 1776م بعد قضاء سنوات طويلة بالحجاز ومصر. وفي السودان نال الشيخ شهرة عظيمة بحسبانه معلما صوفيا وصاحب كرامات ومعجزات. واتخذ من أم مرحي بشمال أم درمان (حيث كان هنالك مسجد وقبر الشيخ محمد بن سرور) مقرا رئيسا له. ولكنه قام بزيارات مطولة لسنار وما جاورها من القرى أصابت في البدء نجاحا كبيرا، تلبية لدعوة زعيم الهمج ناصر (ولد بادي أبو شلوخ). وربما حدثت تلك الزيارة في الفترة بين عامي 1785 و1798م. وفي غضون أيام زيارته لسنار وُفق الشيخ الطيب في علاج أحد إخوة الزعيم ناصر، فأمر له الزعيم بقطعة أرض واسعة بالقرب من سنار، أقام فيها الشيخ لسبعة أعوام متصلة. ولكنه غادرها (مغاضبا) بعد أن دخل في نزاع مع ولي صالح آخر في المنطقة، وعاد إلى أم مرحي إلى أن توفي في عام 1824م. ولا شك أن الشيخ الطيب كان في سنوات حياته بالسودان قد أفلح في تأسيس طائفة من المريدين والتابعين للطريقة السمانية. وبقيت زعامة الطريقة في نسله من بعده.
وعن طريق أحمد الطيب تحولت عائلته من عائلة ثانوية إلى أهم عائلة أولياء صالحين في السودان. ولم يفلح أحد في تكرار مثل ذلك الإنجاز سوى شيخ أصغر منه كان من معاصريه، وهو محمد عثمان الميرغني في بدايات ومنتصف عقود القرن التاسع عشر. ومن المعلوم أن عائلة الميرغني كانت تقطن في وسط آسيا (كان أحد أباعد أسلافهم يدعى ميرخورد البخاري)، ولكنهم سكنوا مكة والطائف بالحجاز في منتصف القرن الثامن عشر. وكان عبد الله بن إبراهيم الميرغني (المتوفي في عام 1792 أو 1793م) من كبار رجال الصوفية البارزين، وكان يزعم لنفسه نسبا شريفيا. وظهر نعي للرجل في صفحتي 240 – 241 من الجزء الثاني لـ "كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لعبد الرحمن الجبرتي. وكان محمد عثمان (حفيد عبد الله بن إبراهيم الميرغني، المشهور بعبد الله المحجوب) من تلاميذ أحمد بن إدريس الفاسي الذي تأثر بكتاباته وتعاليمه أهل التصوف المجددين، وكذلك أهل الإصلاح والتشدد من الوهابيين ((انظر المقال المترجم بعنوان "أَبْنَاءُ الإمام الغائب: نسب عائلة الميرغني". المترجم).
وقام محمد عثمان الميرغني، وهو في السادسة والعشرين من العمر، بطلب من معلمه أحمد بن إدريس الفاسي، بجولة دعوية (في الأصل دعائية) لمناطق مختلفة في السودان في عام 1818 أو 1819م، أي قبل عام أو عامين من الغزو التركي – المصري. وقضي الميرغني وقتا في دنقلا وفي كردفان (وكانت وقتها تحت إدارة حاكم مكلف من قبل سلطان دارفور)، وفي سنار، عاصمة سلطنة الفونج. وقوبل الرجل بمعارضة شديدة في كل من كردفان وسنار، ولكنه رغم ذلك كسب بعض المؤديين. وعقب وفاة أحمد بن إدريس الفاسي، أعلن محمد عثمان الميرغني عن طريقته الصوفية الخاصة، سماها البعض "الميرغنية"، ولكنها عرفت بصورة واسعة بالطريقة الختمية. وتوفي محمد عثمان الميرغني في عام 1855م، وخلفه على زعامة الطريقة ولده (من أم دنقلاوية) الحسن. وحفيد الحسن (السيد/ علي الميرغني) هو الزعيم الحالي لطائفة الختمية (قد يكون تاريخ وفاة محمد عثمان الختم مختلفا عما أتى في هذا المقال، فقد ذُكر في مواضع كثيرة أنه توفي عام 1268هـ. وتوفي السيد على الميرغني في 1968م، وخلفه ابنه محمد عثمان في زعامة الطائفة. المترجم).
وجذبت طائفتا السمانية والختمية الكثير من المؤيدين على حساب الطرق الصوفية الأقدم. وكان هذا هو ما أفضى لبعض العداء والتوتر في العلاقات بين تلك الطوائف. ولعل ذلك الشقاق كان سببا في هجر الشيخ الطيب لمنطقة سنار وأوبته لموطن أسلافه في أم مرحي. غير أن طائفة الختمية كانت قد نالت نصيب الأسد من ذلك العداء. ولا عجب، إذ أن مقدم محمد عثمان الميرغني للسودان كان في نفس أعوام الغزو التركي – المصري للبلاد، وكان كثير من السودانيين يرون ارتباطا ما بين الحدثين المتزامنين. وورد في مخطوطة كاتب الشونة (في نسختها الصادرة من القاهرة ؟ عام 1961م) أن أحمد بن إدريس الفاسي قال بأن ما حاق بالسودان سببه هو أن أهله أساؤوا الأدب مع محمد عثمان الميرغني. ولكن بعد أن استقر الأمر للحكم التركي – المصري بالبلاد، ازدهرت طائفة الختمية وازدادت أعداد أتباعها. وفي هذا كتب المؤرخ اللبناني نعوم شقير في كتابه "تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته، 1903م" ما نصه:
"ومما ساء الأهالي أيضا، وعلى الخصوص رؤساء الطرق تمييز المرغنية على سائر الطرق الصوفية في السودان حتى كثر أتباعهم وعظم جاههم، وهذا وإن لم يكن صريحا من أصل الحكومة بمصر، فهو مسبب عنها، فإن الحكام وأهل النفوذ من رؤساء الأقسام ليسوا من أهل السودان، وعاداتهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات تختلف عن عادات أهل السودان فمالوا إلى مخالطة المرغنية للمشاكلة أولا، ولانتساب المرغنية إلى مكة المشرفة ثانيا، وبسبب ذلك مال عليهم عساكر الشايقية عموما لتقربهم من رجال الحكومة، ودخلوا في سلكهم حتى صار كل سر سواري يهدي اليهم مرتبه ومرتب رجاله شهريا في كل سنة، فازدادت بذلك صولة خلفاء المرغنية وصاروا يتطاولون على رؤساء الطرق الأخرى بالشتم والاهانة، فحقدوا عليهم وعلى الحكومة التي كانت سبب (سببا) في تعظيم شأنهم".
واضمحلت، على وجه العموم، مكانة رجال الدين (الفُكيا إن صح جمع فكي) والبلاد تحت سيطرة الحكم التركي – المصري، رغم أن ذلك النظام كان متسامحا معهم، ودأب على تقديم العطايا لخلاويهم. غير أن الحكم التركي – المصري أنشأ طبقة هرمية رسمية من "العلماء"، ورفع من قدرهم وهيبتهم، وأسند إليهم بعض الوظائف السياسية، مؤثرا إياهم على الفُكيا وسهلت الحكومة على السودانيين الراغبين السفر لمصر والالتحاق بالأزهر. وأفضى ذلك لتعرض الخلاوي السودانية التقليدية لتحدٍ صعب من مفسرين ثِقات للعلوم الإسلامية، رغم أن غالب السودانيين ظلوا منجذبين بشدة لتعليم الخلاوي التقليدية.
وظل ذلك التنافر والشقاق بين "العلماء" وفُكيا الخلاوي لنحو ستين عاما، وظل شقاقا محتملا أكثر منه حقيقيا. وكانت الاختلافات بين المجموعتين في بعض الحالات مُعَمّية أو مخفية. ومن أمثلة ذلك عائلة فكي في كردفان اسمه بشارة الغرباوي، ذي أصول دنقلاوية (وينسب أيضا للبديرية الدهمشية. المترجم). وكان بشارة قد تلقى العلم على يد شيخ يقال له إبراهيم البولاد، واتسعت شهرته في القرن السابع عشر. وحصل بشارة على منحة أرض من بادي الثاني سلطان الفونج (1644 – 1680م)، أكدها لورثته السلطان بادي الرابع في عام 1732 أو 1733م. وأستقر من أبناء الجيل الرابع لأحفاد بشارة تاجر اسمه عبد الله في كردفان. وعمل من بعده ولده إسماعيل، المعروف بالتقوى وسعة العلم، بتدريس العلوم الدينية. وارتبط إسماعيل لفترة من الوقت بالشيخ أحمد الطيب. ولم تنقطع تلك الصلة إلا بعد مقدم محمد عثمان الميرغني لكردفان، حين هجر إسماعيل شيخه أحمد الطيب ومال للميرغني وغدا من أكبر أتباعه. ثم أنشأ في كردفان عام 1842م طريقة متفرعة من الطريقة الختمية ولكنها مستقلة عنها اسماها "الإسماعيلية"، كان كل أتباعها في كردفان. وبلغ من سمعة وتأثير تلك الطريقة على مريديها أن أطلقوا على شيخها إسماعيل لقب "الولي"، أي الرجل الصالح صاحب "البركة". وعلى غير عادة الأولياء الصالحين لم يزعم إسماعيل لنفسه قط نسبا شريفيا، بل اكتفى بنسب عباسي (أي جعلي).
وترك إسماعيل الولي من بعده ولدين، خلفه أكبرهما (محمد المكي) على زعامة الطريقة في عام 1863م إلى أن توفى عام 1906م (أنجب إسماعيل الولي بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا 13 ولدا و6 بنتا. المترجم). وكان محمد المكي من أوائل المؤيدين للمهدي في دعوته بكردفان. أما الأبن الأصغر أحمد فقد كان له مسار ومصير مختلف جدا. فقد سافر لمصر لتلقي العلم الشرعي في الأزهر، وبقي فيها لاثني عشر عاما متصلة، ثم عاد لكردفان للعمل بالتدريس. وخلافا لأخيه الأكبر، كان أحمد ينكر الدعوة المهدية إنكارا تاما، بل وحاربها وكتب في دحضها بيانا شهيرا (مانفستو) في عام 1882م.
وعين بعد ذلك أحمد المكي قاضيا ومفتيا في غرب السودان المصري إلى أن قتل مع بعض أتباعه في معركة ضد أنصار المهدي. وأدي ولده إسماعيل الأزهري (1868 – 1947م) دورا بارزا كقاضٍ شرعي خلال سنوات الاستعمار الباكرة، وتسنم وظيفة مفتي السودان. وصار حفيده (إسماعيل الأزهري) أول رئيس للوزراء في السودان في يناير 1954م، وقاد البلاد حتى تم لها الاستقلال.
ويمكن لنا أن نلحظ الدور الذي أداه إسماعيل الولي في أسلمة كردفان، الذي يعد مثالا خاصا لظاهرة شائعة. فقد انتشر الإسلام في كردفان، وفي دارفور ووداي أيضا، بفضل مجموعات نوبية مستعربة (أي جعليين ودناقلة) من مناطق نهر النيل. وأبقت كثير من العائلات والجماعات في الغرب على تقاليد اسلافهم التي تعود لعصور بعيدة. وتوجد على سبيل المثال بعض أساطير المنشأ (foundation legends)، تلك التي ورد فيها أن حكيما غريبا أقبل من جهة النهر لنشر التمدن والتنوير في أوساط الأهالي الأصليين، وتزوج من فتاة من العائلة المالكة. ولعل هذا قد حدث مع العائلة المسلمة التي كانت تحكم مملكة تقلي في جبال النوبة، وسلالة الكيرا الذين أتى منهم سلاطين دارفور. وهناك أيضا الدولايب في شمال كردفان الذين يدعون أنهم من نسل (الشيخ) غلام الله عن طريق أحد أولاده (ركاب)، وليس عن طريق أسلاف أولاد جابر.
وبعد ستين عاما من الحكم التركي – المصري، هددت حركة المهدية، ثم أطاحت لاحقا، بحكم الخديوي للسودان. وكانت أسباب قيام تلك الحركة متداخلة ومعقدة. غير أن واحدا من تلك الأسباب كان بلا ريب هو أنها كانت وسيلة من وسائل احتجاج القيادة الاسلامية المحلية التقليدية بالبلاد ضد النظام الحاكم الذي قام بإضعاف مكانتها وهز وضعها في المجتمع. وبهذا الفهم، فقد كانت حركة المهدية هي في الأساس حركة فُكيا، وكان من المناسب جدا أن يقود تلك الحركة رجل دين صالح تلقى العلوم الشرعية في الخلاوى على يد شيوخ تقليدين. وظهر في المشهد محمد أحمد المهدي بحسبانه ممثلا لعائلة آخر الأولياء الصالحين في السودان.
وعند دراسة تاريخ عائلات الأولياء الصالحين الأربعة الذين أتينا على ذكرهم (غلام الله وأحمد الطيب والميرغني وإسماعيل الولي) نلحظ أن ظهورهم جاء على مرحلتين: ففي المرحلة الأولى كان مؤسس العائلة (أي أول ولي صالح فيها، وليس أول سلف مشهور فيها) قد عرف بين الناس بأنه ولي صالح، وربما يزعم لنفسه نسبا شريفيا. أما في المرحلة الثانية فقد تعود هيبة وسمعة العائلة بعد غياب امتد لأجيال، ويظهر في العائلة من يقوي تلك السمعة ويدفع بها للأمام. وهذا ما ظهر في عائلة المهدي. فقد عرفت عائلته بالتقوى منذ ستة أجيال سابقة، قبل أن يعد محمد أحمد هو "مؤسس" تلك العائلة، التي كانت تقطن بالقرب من دنقلا وتزعم لنفسها نسبا شريفيا. ولا يعرف شيء عن أفراد تلك العائلة قبل ظهور عبد الله والد محمد أحمد المهدي. كان الرجل يعمل في صناعة المراكب، ويذهب عبر النيل لمناطق قريبة من الخرطوم بحثا عن الأخشاب. وعمل أولاده في ذات الحرفة بعد وفاته، عدا محمد أحمد، والذي سلك طريق تعلم القرآن والعلوم الشرعية في الخلاوي، وصار صوفيا على الطريقة السمانية. غير أنه شاقَّ شيخ طريقته محمد شريف نور الدائم. ومنذ ذلك التاريخ بدأ رويدا رويدا في الانعتاق والاستقلال من الطرق الصوفية وشيوخها حتى يوم 29 يونيو 1881م، حين أعلن للناس أنه "المهدي المنتظر".
وأحرز المهدي في السنوات الأربع التالية انتصارات ميدانية حولته من قائد لمجموعة صغيرة من المسلمين الأتقياء في بقعة صغيرة بعيدة من أرض السودان المصري إلى قائد دولة إسلامية ذات سيادة، في وقت تزامن مع اهتزاز حكم خديوي مصر (نتيجة لثورة عرابي وما تلاها من احتلال بريطاني). وكان لانتصار محمد أحمد المهدي وتأسيسه لدولته أعظم الأثر على عائلات الأولياء الصالحين بالسودان. فقد دفعت تلك الثورة للأمام بأفراد ومجموعات لم تكن لها في الماضي سوى أهمية ضئيلة، وأحدثت تفاعلات متباينة في أوساط عائلات الأولياء الصالحين المعروفة.
وكان أوضح وأكثر المستفيدين من نجاح حركة المهدية هم أقرباء محمد أحمد المهدي، والذين صاروا يعرفون في النظام الجديد بـ "الأشراف". غير أن ظهورهم في تلك المرحلة لم يدم طويلا. ففي غضون سنوات المهدي لم يتح لهم المجال لاحتكار السلطة. فقد عين المهدي له ثلاثة خلفاء كان ثالثهما هو الوحيد من أقرباء المهدي (وهو خليفة الكرار محمد شريف). ولم يكن من بين طبقة هؤلاء الأشراف من له سلطة أو نفوذ حقيقي في الدولة الجديدة سوي ثلاثة أو أربعة رجال فحسب. غير أنهم لم يكونوا محبوبين من العامة، ربما بسبب تفاخرهم بين الناس بكونهم مجموعة أو طبقة تمت بصلة القرابة لقائد الدولة. بل خطب المهدي في الناس قبل عشرة أيام فقط من وفاته منددا بهم. لذا لم يكونوا في أفضل حال لاستلام دفة قيادة الدولة بعد وفاة المهدي في 22 يونيو 1885م. وانتقلت قيادة الدولة المهدية إلى الأول من بين الخلفاء الثلاث (الخليفة عبد الله بن محمد)، رغم محاولات الأشراف في عامي 1886 و1891م الاستيلاء على السلطة، التي كانوا يرون أنهم أحق الناس بها.
وكان ذلك التحول في السلطة عن عائلة المهدي (الشريفية) وانتقالها لفرد من العامة يشابه مصادفةً وبصورة غريبة ما حدث في دولة الموحدين (السلالة الأمازيغية التي حكمت بلاد المغرب بين عامي 1121 و1269م. المترجم) قبل ظهور دولة المهدية بنحو 750 سنة. ففي تلك الدولة تولى السلطة بعد وفاة مؤسسها محمد بن تومرت المهدي خليفته عبد المؤمن بن علي. ولما أزاح الخليفة عبد الله أي منافس له من الأشراف، غدا بمقدوره تكوين سلالة حاكمة سودانية كان أصلها من خارج حدود السودان المصري، وتحديدا بين وداي وبرنو (ولاية تاريخية في غرب أفريقيا). وكان جده قد توجه شرقا لأداء فريضة الحج، وفي الطريق لمكة، طاب له المقام مع بقارة التعايشة في دارفور وتزوج من إحدى فتياتهم. وكان والد (الخليفة) عبد الله معروفا بشدة التدين وبالعمل عرافا يتنبأ للقبيلة بنجاح أو فشل ما عزموا عليه من غزوات. وقام عبد الله بنفسه بأخذ عائلته شرقا في وقت ساده الاضطراب الذي أعقب ضم الخديوي لدارفور في 1875م. ثم التقى بمحمد أحمد قبل أن يعلن الأخير مهديته، وصار أحد تلاميذه أتباعه، وحثه على إعلان المهدية.
وبعد أن استقر للخليفة أمر حكم الدولة، قرب إليه أفراد قبيلته التعايشة، ومنح أقربائه على نحو خاص أعلى الوظائف. وعمل أخاه غير الشقيق يعقوب كوزير له، وكانت له سلطات واسعة في كثير من الأمور الإدارية. وكان الخليفة في سنواته الأخيرة يعد ولده عثمان لخلافته. وكان عثمان (الذي يحمل اللقب الشرفي "شيخ الدين") فيما يبدو شابا ذكيا مستشرفا للمستقبل، وكان يعمل مع عمه يعقوب كواحد من أهم مستشاري الخليفة المقربين، خاصة عند اقتراب الجيش الإنجليزي – المصري، الذي قام في نهاية المطاف بإسقاط نظام سلالة الخليفة، ليس بالضرورة بسبب ضعف داخلي في الدولة المهدية، بقدر ما هي بسبب القوة العسكرية والتقنية الضاربة التي كانت تتمتع بها القوات الإنجليزية – المصرية بقيادة كتشنر. وقُتل يعقوب في ساحة القتال عام 1898م، وقُتل الخليفة في العام الذي يليه. أما عثمان شيخ الدين فقد أُسر (في المعركة مع الخليفة في أم دبكيرات)، ومات في محبسه في سجن رشيد بالدلتا المصرية في 1900م.
وكما أسلفنا فقد كان الفُكيا وعائلات الأولياء القديمة هم أكثر من أيدوا المهدي في بدايات دعوته. وجلب هؤلاء الكثير من الأنصار للمهدي. فقد كان محمد المكي قد دعا محمد أحمد لداره في الأبيض، عاصمة إقليم كردفان حتى قبل إعلانه للمهدية. وكان هنالك الفكي المنا إسماعيل، أحد شيوخ السمانية الذين كان الجيل الخامس من أسلافه قد هاجروا للغرب من مناطق الجعليين. وأرتبط الفكي المنا بمجموعة من البقارة الذين أتوا للاستقرار في كردفان من دارفور. وكان في عائلته عدد من الفُكيا في بعض قبائل الرحل (مثل الجِمع والجوامعة). ولهذا تيسر للفكي المنا أن يجمع حول المهدي عددا كبيرا من رجال القبائل المختلفة. وكان له في بدايات الثورة المهدية قوة ونفوذ، غير أن طموحه تصادم مع طموح الخليفة فقتله المهدي في 1883م (انظر المقال المترجم بعنوان: "الفكي المنا: فكي وأمير في كردفان" بقلم أ. ر. بولتون. المترجم).
وفي الشرق انضم للحركة المهدية رجال البجا القاطنين في تلال البحر الأحمر الذين كانوا من أتباع المجاذيب. وكما ذكر الرحالة السويسري بيركهاردت فقد كان المجاذيب قد بسطوا منذ القرن الثامن عشر نفوذهم (الديني) في أوساط البجا القاطنين بين الدامر وسواكن. ولما أقام الحسن الميرغني في منتصف ذلك القرن مركز طائفته بالقرب من كسلا، أشعل ذلك نار المنافسة بين المجاذيب والختمية على نيل تأييد قبائل شرق السودان المصري. ولما ظهر المهدي، اختار الميرغنية (الختمية) الثبات على الولاء لحكومة الخديوي، بينما آثر المجاذيب الوقوف في صف المهدية. ووضح ذلك جليا عندما أرسل المهدي التاجر عثمان دقنة أميرا على منطقة الشرق، وقابله ممثل المجاذيب في المنطقة (شيخ الطاهر الطيب المجذوب) بكل حفاوة. وكان ذلك الشيخ هو من استقطب آلاف البجا لصفوف جيش المهدي. لقد أفلح عثمان دقنة في إشعال حرب عصابات طويلة في سواكن وتلال البحر الأحمر كما هو معروف في تاريخ المهدية. غير أنه يجب أيضا ذكر أن من أهم أسباب النجاحات الأولى لعثمان دقنة كان هو قرار شيخ الطاهر تأييد المهدية.
وبدأت مع المهدية مرحلة جديدة من تاريخ عائلات الأولياء الصالحين بالسودان. ورغم أن المهدي لا يمكن أن يوصف بأنه "قائد وطني" إلا من باب التعميم الفضفاض، إلا أنه كان يختلف عمن سبقوه من الفُكيا في اهتمامه الواضح بالجوانب السياسية، وفي منظوره الشامل والواسع لغاياته. وكان محمد أحمد باتخاذه للقب "المهدي" قد نسب لأفعاله "سلطة إلهية مباشرة"، الشيء الذي جعله متفوقا على حكومات الخديوي (المصري) والسلطان (التركي)، الذين دأب على وصفهما بالكفر. وقنن المهدي لثيوقراطية إسلامية (عبر منشوراته وأحكامه القضائية) صنع لها هيكلية إدارية، وعين على رئاستها بعض كبار أنصاره. وكان يؤمل أن تعم ثيوقراطيته تلك كل أرجاء العالم. غير أن ذلك كان أمرا نظريا محضا. فمن ناحية عملية لم يقم المهدي بالنظر جديا إلى أبعد من حدود السودان – المصري القديم. وفي واقع الأمر لم تشمل حدود الدولة المهدية في أفضل أيامها كل مناطق السودان – المصري. ورغم ذلك فيجب القول بأن المهدي وخليفته كانا قادة سياسيين أصحاب سيادة على مستوى تصغر بالمقارنة معه كل إنجازات المجاذيب حكام الدامر السابقين.
وكان من نتائج المهدية استقطاب إسلام السودانيين وتوزعهم على مجموعتين: الأنصار (أتباع المهدي) والختمية (أتباع الميرغني). وتراجع أتباع عائلات الأولياء الصالحين الأخرى (رغم قدمها) إلى خلفية المشهد. ولم يكن ذلك الانقسام واضحا عند بدايات العهد الإنجليزي – المصري. فقد خبا نجم عائلتي المهدي والخليفة في تلك السنوات الباكرة، وحصدت عائلة الميرغني وأقربائه ثمار سبق ولائهم للخديوي، ونالوا تعويضات مجزية عما حاق بهم من تشريد ومعاناة في عهد المهدية.
وكان الفضل في عودة السلطة والنفوذ الديني والسياسي لعائلة المهدي بعد غياب امتد لنحو أربعين سنة يعود لعبد الرحمن بن المهدي (الذي ولد بعد موت والده من أم كانت أميرة في دارفور). وقضى عبد الرحمن فترة صباه وشبابه الباكر في فقر وشظف بالغين، وظل – مع بقية أفراد عائلة المهدي – محل شك وارتياب من حكومة العهد الثنائي التي ظلت تتوجس خيفة من عودة المهدية مجددا. ولم تكتب كاملةً بعد قصة التاريخ الداخلي لعودة حظوظ عائلة المهدي، إلا أن بعض ملامح تلك العودة وأسبابها واضحة الآن. كان الرجل قد شرع تدريجيا في العشرينيات والثلاثينيات في تكوين ثروته، أساسا من القطن المزروع في أراضي زراعية واسعة منحتها له حكومة السودان. وقامت الحكومة أيضا برفع الحظر عن ممارسات أنصاره الدينية، مما مكنه من تجميع عدد كبير من الأتباع المخلصين. وكانت غالبية هؤلاء الأنصار من رجال القبائل البسطاء، إلا أنه كان قد جمع حوله بعض المتعلمين من رجال المدن المتغربين، كان معظمهم من أبناء الجيل السابق للعائلات التي ساندت المهدي. وما أن أتت الحرب العالمية الثانية حتى كان السيد عبد الرحمن المهدي يحظى بذات الهيبة والتقدير التي كان يحظى بها منافسه السابق السيد علي الميرغني.
وعلى مثل هذه الخلفية لعائلتي أولياء يتبعهما أنصار كثيرون، وبينهما خلافات مبدئية حادة، ظهرت الوطنية السودانية. فقد وجدت الحاشية المغرمة بالسياسة المحيطة بزعيمي الطائفتين فيهما خير وسيلة لتوصيل أهدافهم ومطامحهم للجماهير، وتحصلت في المقابل على تأييد تلك الجماهير لهم كقيادات وطنية. غير أن عبد الرحمن المهدي، على كل حال، لم يكن قط أداة طيعة في أيادي معاونيه من الساسة. فقد ذكر طرفا من قصة تحوله من طائفة دينية إلى حزب وطني، وقال بأنه رفع في عام 1924م مبدأً ظل ينافح عنه طوال السنين، وهو مبدأ "السودان للسودانيين"، وهو ذات المبدأ الذي تبنته الحركة الاستقلالية في السودان، إلى أن نالت البلاد استقلالها. وقال أيضا: "لقد ظللت أداوم على الترويج لذلك المبدأ، وحرصت على أن أجمع حولي عددا من المتعلمين، بينما كان الأنصار، كما هو العهد بهم، هم السند الشعبي الذي اعتمدت عليه في الترويج لذلك المبدأ".
ويبدو أن انهماك عائلة المهدي في السياسة الوطنية ما زال متواصلا. فالسيد الصادق المهدي (حفيد السيد عبد الرحمن المهدي المتوفى في 1959م) هو رئيس الوزراء الحالي (1966م).
وعلى الرغم من أن هوية وأدوار عائلات الأولياء الصالحين قد تغيرت وتبدلت في غضون العقود الخمسة الماضية، إلا أنه، بالنظر إلى ما جرى من قبل، فإنه من الجَليّ أن تلك العائلات قد شكلت عاملا عظيما ومهما وباقيا في المجتمع السوداني. ولعل أهم دورين لها في الحاضر والمستقبل هما: تكوين الجماعات السياسية، وأسلمة جنوب السودان. لقد أدت تلك العائلات بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر – كما أسلفنا – دورا مهما في مد حدود الأسلمة جنوبا. وتمددت الآن كثيرا حدود الأسلمة التي وقعت في بدايات في القرن التاسع عشر. ولن يكون من المستغرب إن تواصلت تلك الظاهرة (التي ميزت عمليات الأسلمة في السودان النيلي وكردفان ودارفور) في الجنوب أيضا.

+++++
[email protected]


إضافة رد


أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 01:17 PM بتوقيت مسقط

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
الاتصال بنا شبكة ومنتديات وادي شعير الأرشيف ستايل من تصميم ابو راشد مشرف عام منتديات المودة www.mwadah.com لعرض معلومات الموقع في أليكسا الأعلى