(صمت البراكين) للشاعر عالم عباس: الشعر عندما يقول (لا) .. في وجه (نعم)!. بقلم: فضيلي جماع
حدث يبدو عابراً في عيون البعض ، فهو في عرفهم لا يعدو كونه إلقاءاً شعرياً في مناسبة الاحتفاء بروائي عملاق هو الطيب صالح. لكن البعض رأي الحدث من زاوية أكثر عمقاً: كيف أنّ الشاعر – وهو صدى للإنسان والمكان – يطلق صافرة الإنذار بدنو العاصفة متى صعد المنبر في الوقت الصحيح!
في أمسية من أمسيات ما عرف بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع – وهي واحدة من محاولات نظام القمع الحالي لتجميل وجهه القبيح بإشاعة أكذوبة أنّه حادب على حرية الكلمة وأنه يرعى الأقلام المبدعة- في واحدة من أمسيات تلك المناسبة ، وقف الشاعر عالم عباس – وهو أحد قممنا الشعرية هذه الأيام إن لم يكن على رأس قائمة شعراء بلادنا- وقف عالم عباس وبكل هدوء ليلقى قصيدة. وكأني بالملأ الحضور ، وأفندية النظام القائم بانتظار من يشتري تلك الليلة صك غفران من زنازين سجونهم وبيوت أشباحهم سيئة السمعة ، فيكافئونه بالرضا وربما يغدقون عليه الهبات قبل حفل ختام المناسبة. بيد أنّ المفاجأة كانت أكبر دوياً مما توقع سدنة نظام القمع ورعاة الفساد الذي تزكم رائحته الأنوف هذه الأيام بدءاً بالجسور التي تتهاوى قبل أن يكتمل الحول على إنشائها وانتهاءً بسرقة مال الزكاة والصدقات في وزارة الأوقاف – المفترض أن تكون راعية الدين والقيم. وقف الشاعر عالم عباس بقامته الفارهة وتقاطيعه السودانية الصارمة ليلقي الشعر (الصاح) في الزمن البوار. وقصيدة (صمت البراكين قبل انفجار الحمم) باعتقادي كانت الشارة الحمراء التي نصبها شاعر شجاع في قلب شارع غير مسموح بالمرور فيه لغير اتجاه واحد، فإذا بالشاعر – مرآة زمانه وضمير أمته – يقول للقتلة : لا تفرحوا كثيرا.. فالعاصفة قادمة وحمم البركان نذير على دوي الانفجار.
(صمت البراكين قبل انفجار الحمم) شعر جميل شكلا ومضموناً. فالقصيدة لم تجنح للهتافية كما يتوقع البعض من هواة شعر المنابر والمناسبات. في القصيدة نفث هادئ وخطاب يخلو من التوتر والمغالاة رغم أنها أفصحت عن غرضها دون استجداء لغموض الرمز وضبابية التجريد الذين يندر أن تنجو منهما القصيدة العربية المعاصرة في عالم يحرم فيه الإفصاح والإبانة. وحين نعرف أن ذات الأسبوع حمل ما عرف بمذبحة الصحافة السودانية (مصادرة 12 صحيفة يومية – علماً أن أكثرية تلك الصحف إن لم تكن كلها تنتمي بصورة أو أخرى لمال الإسلامويين صانعي وصنيعة النظام الحالي) عندما نعرف ذلك ندرك كيف أنّ (صمت البراكين) قصيدة هي بمثابة البشارة للشعر عندما يفصح عما يعتمل في صدور أبناء وبنات الشعب المخلصين. بهذه القصيدة الشجاعة يمنح شاعر الروائع عالم عباس قصيدة الثورة السودانية بعدا جديدا في المواجهة والتحدي لسلطة القمع في الخرطوم.
سموت كما أنت دائما يا توأم شعري وصديقي وأخي. أشعر اليوم أنني كنت معك في المنصة وأننا نطلق النار معاً على الجلادين ..فليحاكموا القصيدة إذن. ذهب الدكتاتور البشع فرانكو وبقيت قصائد فدريكو غارسيا لوكا قناديل في مدن وقرى اسبانيا. وذهب جزار أميريكا اللاتينية بينوشيه وبقيت قصائد بابلو نيرودا عرائس تستحم في أنهار شيلي وشموسها.
عشت أيها الشاعر المناضل .. فبلدك وشعبك فخوران بك.
===
[email protected]