المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حفريات لغوية - في الأصول النوبية للهجة السودانية- منقول


عمر محمد الأمين
09-11-2011, 05:05 AM
حفريات لغوية - في الأصول النوبية للهجة السودانية .. بقلم : عبد المنعم عجب الفيا
اللهجات العربية المختلفة هي حصيلة تزاوج اللغة العربية واللغات القديمة لشعوب هذه البلدان. فاللهجة المصرية مثلا تشكلت من تمازج العربية المهاجرة مع اللغة القبطية.
والمغاربية نتاج تمازج العربية مع لغات البربر. واللهجة السودانية هي حصيلة تمازج العربية مع اللغات النوبية والبجاوية والفوراوية والنيلية وغيرها، وهكذا.

وحينما نقول اللهجة السودانية، نعنى لغة الكلام والتخاطب العربية التي يتحدثها السودانيون بمختلف اثنياتهم وانتماءاتهم الجهوية.
ولسنا في حاجة إلى من يذكرنا بان اللهجة السودانية هي مجموعة لهجات، فلا توجد لهجة قومية في العالم تخلو من هذا التنوع والتباين داخل القطر الواحد.
إلا أن هذا التباين لا يغير من حقيقة وجود لهجة قومية، هي اللهجة التي يعرف بها كل بلد على حده.
ففي مصر هنالك أكثر من لهجة : هنالك لهجة الصعيد ولهجات الوجه البحري وسيناء والإسكندرية وقبائل بني على ولهجات الفيوم والواحات وغيرها، إضافة إلى اللهجة القاهرية. وفي السعودية هنالك لهجة الحجاز وعسير وتهامة ونجران والمناطق الشرقية والشمالية ونجد وغيرها. وهكذا هو الوضع في سائر البلدان العربية.
هذا، وقد تعرض عدد من الباحثين للأصول النوبية لمفردات اللهجة السودانية وعلى رأس هؤلاء الباحثين الدكتور عون الشريف قاسم وذلك في كتابه العمدة ( قاموس اللهجة العامية في السودان) حيث نجده قد عمل ما في وسعه إلى رد كثير من المفردات إلى أصلها النوبي. غير أن الباحث والمترجم المتميز فؤاد عكود ، في كتابه ( من ثقافة وتاريخ النوبة 2007) قد استدرك على عون الشريف انه اغفل رد بعض المفردات إلى الأصول النوبية كما انه لم يتوسع ما يكفي في تباين هذه الأصول النوبية أو لم يقف على الأصل النوبي الصحيح لها.
وقد أورد عكود أمثلة تظهر إلى أي مدى تغلغلت لغة وثقافة النوبة في اللهجة السودانية واشفع ذلك بشرح وتحليل يكشف عن تمكنه وبراعته في هذا الميدان وقد ساعده على ذلك انتمائه ومعرفته باللهجة النوبية الدنقلاوية.
غير أن فؤاد عكود في بحثه وتقصيه عن الأصل النوبي لبعض المفردات قد أغفل حقيقة التأثير والتبادل والاستلاف المزدوج بين اللغات النوبية واللهجات العربية السودانية،
الأمر الذي جعله يرجع بعض المفردات إلى أصول نوبية بينما البحث يكشف أن هذه المفردات ذات أصول عربية سودانية. فواقع الحال يقول مثلما أخذت اللهجة السودانية العربية الكثير من المفردات النوبية، فان اللهجات النوبية قد أخذت بالمقابل بعض الألفاظ العربية السودانية. وهذا التبادل المزدوج يعد أبرز خاصية في التفاعل والاحتكاك بين اللغات. ولكن قبل أن نورد الأصول العربية لما عده فؤاد عكود نوبي الأصل، يجدر بنا أن نظهر بعض الأمثلة التي تفضل بها عكود للدلالة على الأصول النوبية للهجة السودانية ليتبين للقاريء عمق تأثر الثقافة السودانية بالثقافة النوبية. وهذه الأمثلة نجد بعضها قد ورد أيضا في معجم عون الشريف قاسم ( قاموس اللهجة العربية في السودان).

لو أخذنا أسماء الأعلام ( الأشخاص) نجد أسماء مثل : نقد ونقد الله وجبر الله وبرسي وقيلي ونابري وتنقاري وحمدتو، ذات أصول نوبية. فنقد تعني عبد. ونقد الله : عبد الله. وبرسي: التوم أي التؤام. وقيلي الأحمر.وتنقاري بالنوبية الشاطيء الغربي أي غرب النيل. ونابري بالنوبية المحسية الذهب. وجبر الله تعني عبد الله. جبر، عبد في النوبية. والجبركل وهي الرجلة تعني في النوبية: طعام العبيد. أما حمدتو، فاصله ولد أو ود حمد. والكلمة منحوتة من العربية والنوبية : حمد، وتود. تود في النوبية ولد. وينطق الاسم في اللسان النوبي: همد- ن- تود. والنون التي بين الكلمتين هي نون الإضافة في النوبية. ثم أسقطت النون فصارت تنطق عند السودانيين، حمدتو.
كذلك كلمات مثل: كوريق، واسوق، عشميق، عنقريب، فهي نوبية وتنطق في اللسان النوبي: كوري ، واسو ، اشمي ، انقري. أبدلت الألف أو الهمزة عينا وأضيفت قافا إلي آخر الكلمة.

من أسماء الحيوان ذات الأصل النوبي كلمة "قرنتي" وهي فرس النهر في لسان أهل السودان. والكلمة نوبية دنقلاوية معناها، بقرة البحر.
وتنطق في اللسان النوبي: أورونتي. اورو = بحر+ تي = بقرة. والنون للإضافة.

ومن الأدوات المنزلية لفظ "دوكة" أي صاج العواسة الذي يصنع من الفخار.وهي كلمة نوبية مكونة من مقطعين: ديو+ كا. ديو في النوبية صاج الخبيز آو العواسة. وكا، وتعني: بيت، دار. ليصير المعنى، بيت صاج الخبيز أو المطبخ " التكل".
ومن الكلمات التي يظن من ظاهرها أنها عربية الأصل إلا أنها غير ذلك، كلمة " أجاويد" والتي تعني في اللهجة السودانية: الذين يتدخلون للتوسط وحل الخلافات بين الناس. ومنها المثل السوداني الشهير : تسوي بايدك يغلب أجاويدك". والاسم منها " جودية" بمعنى التوسط لحل النزاعات. يقول فؤاد عكود إن الكلمة ليست من الأصل العربي جواد بمعنى الكريم، وإنما هي كلمة نوبية الأصل مكونة من مقطعين: آج = مستمر ، واد = الذي يفصل بين المتخاصمين.

وغير ذلك كثير على النحو الذي أورده عكود وسبقه في الإشارة إليه عون الشريف قاسم. مثل : سوسيو، وتبش، وتربال التي تعني في النوبية- حسب عكود : مساك المنجل، ترب= منجل + آر = ماسك. ومثل جيرتق وسبروق وكرتوت وكوار وتقة وكداد وتبن وبتق وكبكبية وعبلانج وأصلها أبلانج وهو القرد وغيرها من الكلمات النوبية التي تزخر بها لهجة أهل السودان.

والآن نعرض إلى بعض مما ظنه فؤاد عكود ذي أصل نوبي وهو غير ذلك. يذهب عكود إلى أن لفظ " شافع" تحريف للكلمة النوبية : شافا وجمعها شافري وتصغيرها شافيد بمعنى الطفل أو الولد الصغير. غير أن لفظ "شافع" قد ورد في معجم لسان العرب بمعنى وليد الناقة و الشاة، أو الناقة والشاة التي يتبعها وليد. ويقال " ناقة شافع أي في بطنها وليد أو يتبعها وليد يشفعها. وسميت الناقة شافعا لان ولدها شفعها وشفعته هي فصارا شفعا" أي أثنين. وقياسا على ذلك نقول خصص لسان أهل السودان لفظ شافع للولد الصغير الطفل، لكونه يشفع أمه. وأغلب الظن أن الكلمة النوبية تحريف للأصل العربي.

يرى فؤاد عكود أن لفظ " تيراب" محرف من الأصل النوبي "تيري". غير أن تيراب وردت في معجم لسان العرب كواحدة من صيغ كلمة "تراب". وقد خصص لسان أهل السودان لفظ تيراب العربي للدلالة على البذور تزرع في باطن الأرض ولعملية زراعة هذه البذور كذلك. والجمع "تواريب". وقد وردت كلمة "توارب" في ذات المعنى في شعر المتنبى. وقد أخبرني الأستاذ الدكتور عبد الله حمدنا الله في نقاش حول ما نشرناه في مقال سابق عن ( تواريب وتقاوي) أن عباس محمود العقاد، قد استعمل كلمة " تواريب" بالمعنى المشار إليه في إحدى قصائده.

ويذهب عكود إلى أن كلمة " فر" بمعنى طار، ومنها قولهم: قلبي فراني، إذا اضطرب فجاءة بسبب الخوف، نوبية. ونقول: فر، عربية وهي تأتي في الأصل بمعنى هرب وتستعمل مجازا في اللهجة السودانية في معنى طار. يقولون طار فر: إذا هرب طائرا بغتة محدثا فرفرة بجناحيه. وقولهم : قلبي فراني إذا اضطرب بسبب الخوف أو الفرح، فيه استعارة. ومنه قول الشاعر في الأغنية التي يؤديها أحمد المصطفى: طار قلبي مني. وفر تعني أيضا فرد وبسط. يقولون فر الثوب إذا بسطه. والفرة، طائر معروف في السودان ولعله سمي بذلك لأنه يفر بغتة من بين الأعشاب والحشائش كونه لا يطير إلا إذا دنوت منه كثيرا فيفاجؤك بطيرانه "فر" حتى يكاد ينخلع قلبك.

يقولون في كلامهم : كدي، ومنها قولهم : ابعد كدي أو زح كدي. ويذهب فؤاد عكود إلى أنها نوبية بمعنى لحظة أو برهة أو بعض الشيء. نقول إن كدي وكدا بالكسر، عربية أصلها كذا أبدلت الذال دالا. وكدي فيها إمالة. وقولهم: ابعد كدي أو كدا معناها زح عن هذي الناحية أو إلى تلك الناحية أو إلى ذاك المكان. أما " مو كدي" أو "مش كدا" تعني أليس كذلك؟. وكدي! في صيغة الاستفهام والتعجب تعني أهو كذلك أو أهكذا؟.
الدفيق في كلامهم ما يتدفق من عسيل الثمر قبل اكتمال نضوجه أو جنيه ويسمى البلح الأخضر غير الناضج عند أهل الشمالية دفيق. ومنه قول الشاعر إسماعيل حسن: الدفيفيق الدابي ني أهلو ضنوا عليهو وعلي. وذلك كناية عن حداثة سن المحبوب. شبهه بالثمر الحلو الذي تدفقت حلاوته ولم يكتمل نضوجه بعد. ويرى عكود أنها من الكلمة النوبية "دفي". غير أن صيغة الكلمة ودلالتها تشي بأنها من دفق يدفق اندفاقا فهو دافق، ودفيق اسم مفعول. ومنها قوله تعالي:" خلق من ماء دافق" أي من اندفاق ماء الرجل في عسيلة المرأة وهو الدفيق في كلامنا كدفق حلو الثمر قبل نضوجه.وأغلب الظن أن دفي النوبية مأخوذة من دفيق.

كذلك يذهب عكود إلى أن "كلكل" بمعنى زغزغ أو داعب بالأصابع في اللهجة السودانية، نوبية. ولكنه لم يزد على ذلك ولم يبين أصلها النوبي. والكلكل في لسان العرب ، الصدر. يقول امرؤ القيس في معلقته:
وقلت له لما تمطي بصلبه * وأردف أعجازا وناء بكلكل
ومن ذلك نرجح أن اللفظة السودانية مشتقة من الكلكل أي الصدر آو أسفل الصدر حيث موطن الزغزغة المثير للضحك في جسد الإنسان.

كما يذهب إلى أن "شكشاكة" بمعنى رزاز المطر الخفيف المستمر نوبية الأصل استنادا على معجم امبروستور للألفاظ النوبية الدنقلاوية من غير بيان لهذا الأصل النوبي. قلت: الشكشاكة في اللهجة السودانية وهو المطر الخفيف المتقطع غير المنهمر، مشتقة من الكلمة العربية شك يشك. بمعنى طعن وهتك. ومنه قول عنترة بن شداد في معلقته:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم.
والمعنى كما يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، طعنته فداخل السنان جسمه. والشك التداخل والانتظام . تقول : شككت بين ورقتين، إذا أنت غرزت العود فيهما فجمعتهما. قلت: ومن ذلك شك ورق اللعب" الكوتشينة" أي خلطه وأعاد نظمه وترتيبه. ويشك السلاح وهو شاك السلاح أي شكك بعضه في بعض وضده نثر السلاح. ومنها قولهم نثر كنانته إذا أخرج السهام من الكنانة وهي الوعاء التي تحشر وتحفظ فيها السهام. قلت: سميت الشكشاكة بذلك لكون أن قطرات المطر الخفيف المتقطع في تساقطها وتداخلها وتتابعها، تشبه شكة الرمح ووخز السهام. أو قل لتتساقطها بانتظام، فالشك هو انتظام أو نظم. يقولون انتظم في السلك الفلاني.

نكتفي بهذا القدر الذي يفي بإعطاء صورة عن عمق تأثير اللغات النوبية في اللهجة السودانية كما يظهر في ذات الوقت التأثر المتبادل بين النوبية والعربية وكل ذلك يؤكد أن الثقافة السودانية هي كل مركب ومزيج متشابك لا يعرف النظرة الأحادية السطحية التي تهدف إلى اختزال هذا الكل في بعد واحد: إما أبيض أو أسود: أفريقي نوبي صرف أو عروبي صرف، وهيهات! فتلك نظرة غير واقعية وغير ديالكتيكية وغير تاريخانية.

abdou alfaya <[email protected]>

عمر محمد الأمين
09-13-2011, 08:39 AM
حوار و سجال لغوي جد مفيد ويفتح الكثير من الآفاق:
===================
عن أثر النوبية في العامية السودانية: بين عكود وعجب الفيا .. بقلم د. خالد محمد فرح - منقول
[email protected]
نشر صديقنا الأديب والناقد والباحث المحقِّق ، الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا مؤخراً مقالاً تحت عنوان: "حفريات لغوية في الأصول النوبية للهجة السودانية".
وقد جاء المقال ـ كالعهد بمقالات عبد المنعم دائماً ـ غاية في الطرافة والفائدة والإمتاع.

وقد دار المقال بصفة أساسية حول مناقشة بحثٍ للأستاذ فؤاد عكود ، كان قد تناول فيه ما يعتبر أنه تأثيرٌ من قبل اللغة النوبية على اللهجة الدارجة المحكية ، أو عربية أهل السودان.
وذلك على اعتبار أنّ هذه الأخيرة ، لغة طارئة ، وفدت على أرض السودان في زمان متأخر نسبيا ، بينما أن اللغة النوبية قد كانت هي اللغة السائدة في أجزاء واسعة من البلاد منذ أقدم العصور.

وفي الواقع فإنّ مسألة تأثُّر عامية أهل السودانيين ، أو عربيتهم المحكية باللغات السودانية القديمة من نوبية وبجاوية وغيرهما، واقتراض هذه اللهجة من تلك اللغات القديمة ، مبحث قد تطرق إليه نفرُ من الباحثين وعلماء الـلسانيات من سودانيين وأجانب ، وقد تفرد من بين هؤلاء البروفسور عون الشريف قاسم الذي أثبت في سفره الضخم الموسوم ب: (قاموس اللهجة العامية في السودان) ، عدداً وافراً من الألفاظ المتداولة بين ألسنة السودانيين اليوم ، وأوضح اللغات السودانية القديمة التي أُخذت منها تلك الألفاظ، وقد كان حظ اللغة النوبية من ذلك كبيراً .

وعلى الرغم من ذلك ، فإن الأستاذ فؤاد عكود قد استدرك ألفاظاً كثيرة يرى أنها نوبية الأصل، استدركها على العلاّمة عون الشريف قاسم ، مؤكداً نوبية تلك الألفاظ ، بخلاف ما كان قد ذهب إليه بروفسور عون في كتابه المومى إليه .

عمد الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا في هذا المقال الذي نحن بصدده ، إلى مناقشة آراء الأستاذ عكود ، موضحاً ما يرى أنه الصواب في تخريج هذه الكلمة أو تلك ، أو في نسبه هذا اللفظ أو ذاك ، إلى هذه اللغة أو تلك .

وها نحن بدورنا أيضاً ، نود أن ندلي بدلونا في هذا الموضوع ، متعقِّبين بالمناقشة بعض الآراء والنقاط التي أثارها الأخ عبد المنعم في مقاله ، ومضيفين إلى ذلك ما عنّ لنا من آراء وخواطر أخرى ذات صلة بهذا الموضوع ، والشيء بالشيء يذكر كما يقال .

ذكّرني مجمل هذا الجدل اللغوي والبحثي ، وخصوصاً ربما لجهة منطلقاته ودوافعه الإيديولوجية ، ذكرني بمقال مشترك نشره الأستاذان الفاضلان: الدكتور محمد مهدي أحمد ، والدكتور زكريا علي أحمد المحاضران بجامعة الخرطوم ، نشراه في مطلع تسعينات القرن الماضي بمجلة "الدراسات السودانية " حول ذات الموضوع ألا وهو : "تـأثير اللغة النوبية على عربية أهل السودان" ، وخصوصاً فيما يلي بعض الصيغ والتراكيب التعبيرية. وكمثال على ذلك ، فقد أعرب ذات الباحثان في مقالهما المشار إليه عن اعتقادهما بأن لفظة "قاعِدْ "، بكسر العين ،و التي تفيد معنى الاستمرار في الفعل أو The present continous tense ، وهو ما يقابله قول المصريين (عَّمال) بتشديد الميم المفتوحة ، وقول الشوام (عَمْ) بعين مفتوحة وميم ساكنة ، مثل قول السودانيين: " البت قاعدة تذاكر " و " الولد قاعد يلعب " ، أعربا عن اعتقادهما أنه تعبير مأخوذ عن اللغة النوبية. وقد عقب البروفيسور عبد الله الطيب بطلب من المحرر على مقال هذين الأستاذين في العدد التالي لذلك العدد الذي نشر فيه مقالهما ، فأكد صحة وفصاحة استخدام الفعل (قعد) ومشتقاته في إفادة الصيرورة والاستمرار معاً ، وأورد على ذلك بعض الشواهد من العربية الفصحى.

وفي الحقيقة فإن استخدام الفعلين (قام) وكذلك (قعد) كأفعال مساعدة auxiliary verbs لإفادة الصيرورة خاصةً ، ليس قاصراً على العامية السودانية وحدها ، بل هو موجود في سائر العاميات العربية المعاصرة الأخرى .

هذا ، ويدهشني لدرجة العجب بمناسبة " قام " هذه ، قول المغني السوداني :

حبيتو ما حباني
إذّكرتوا قام نساني !

إذ المفروض هو أن الشاعر المحب ينبغي أن يكون في حالة تذكر دائم لمحبوبه، كما أن من المفترض أن يكون ذلك المحبوب الغرير اللاهي ، وغير المبالي أصلاً ، في حالة نسيان دائم للشاعر. فكأن التذكر، والنسيان كذلك ، في هذا السياق بالذات ، ينبغي أن يكون إذا عملية مستمرة process وليس مجرد واقعة event ، أو فعل يقابله رد فعل.
استوقفني من بين أسماء الأعلام التي أوردها كاتب المقال وأرجع أصولها إلى اللغة النوبية نقلاً عن الأستاذ عكود ، استوقفني بصفة خاصة اسم: "جبرالله" الذي قال إنه من النوبية، وأن معناه: "عبد الله" ، موضحاً بأن "جبر" معناها "عبد" في النوبية . ويزيدنا المؤلف علماً استناداً إلى عكود أيضا ، بأن نبات (الرِّجْلة) ، المعروف يسمى في النوبية "جبر كل" ، وأن معناها "أكل العبيد".
قلتُ : الجذر : "جبر" بمعنى "عبد" جذر "سامي" أو "عروبي" قديم الأثل ، وأصيل فيما يبدو. وأشد اللغات الـساميِّة المعاصرة احتفاء به هي اللغة الحبشية ، حيث يظهر بصورة واضحة في كثير من أسماء الأعلام مثل : "جبر سلاسي" بمعنى "عبد الثالوث المقدس" ، و"جبر مصقل" بمعنى "عبد الصليب"، و "جبر آب" بمعنى عبد الإله أو عبد الرب". وقد تنطق الجيم ههنا مثل القاف المعقودة ، أو الجيم القاهرية.
هذا ويرى كثير من العلماء والمفسرين كذلك أن معنى "جبريل" وهو اسم أمين الوحي، والروح القدس، وعظيم الملائكة هو: "عبد الله". إذ جبر هو: عبد، و "أيل" هو الله تعالى.
وربما كان هذا هو من قبيل المشترك اللغوي بين النوبية النيلية الصحراوية ، والحبشية السامية ، ثم الآفرو آسيوية بحسب آراء سائر مصنفي اللغات الغربيين.
وتذكّرني مادة "جبر" هذه ، وخصوصاً كلمة "جبركل" النوبية بمعنى "الرجلة" كما قال عبد المنعم بكلمة "جُبراكة" بضم الجيم وتسكين الباء ، وهي في العامية السودانية عبارة عن المزرعة الصغيرة بالقرب من المساكن ، أو الباحة الخلفية للدار التي تزرع فيها بعض الخضروات والبقوليات للاستهلاك المنزلي وليس للبيع. وتُجمع على "جباريك" ، ومنه العبارة الشعبية التي تقال في موضع الافتخار الساخر بالنفس: " أنا الكيك الكمل بلادو فريك .. وقبّل على الجباريك ".

ومازلت أذكر محاضرة عامة شهدتها بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم قبل سنوات ، قدمها الدكتور خضر آدم عيسى ، أستاذ التاريخ القديم بالجامعة ، الذي أدهش الحاضرين عندما حكى لهم في معرض تلك المحاضرة أن رجلاً أمياً بسيطاً من جبال النوبة، أنجبت زوجته طفلة فلما سألوه عن اسم المولودة أجابهم بأنه قد أسماها " جُبراكة" ، فلما أعربوا عن استغرابهم لذلك قال لهم : "مثل ما يسمى العرب بناتهم حياة". ثم انبرى الدكتور خضر إلى تخريج كلمة "جبراكة" وتقطيعها ، وفقاً لمقاطع ومدلولات اللغة المصرية القديمة بالخط الهيروغليفي هكذا : "جب .. رع.. كا.." ، وقال إن معناها: "الحياة التي وهبها الإله رع" ، أو شيء من هذا القبيل ، لطول عهدي بتلك القصة.

ولولا أن عبد المنعم عجب الفيا قد أفادنا بأنه قد وجد في كتاب (لسان العرب) لابن منظور أن "الناقة الشافع" و "الشاة الشافع" كذلك ، هي التي يتبعها وليدها ، فكأنه يشفعها ، لظللت مائلاً إلى ما سبق أن سمعته من تخريج اطمأننت له ـ وتراني ما أزال مطمئناً له إلى حد كبير ـ من أنّ كلمة "شافِع" السودانية بمعنى "طفل صغير" ، مأخوذة من النوبية "شافا" بمعنى صغير مطلقا ، كما جاء على لسان الأستاذ عكود ، وكما سبق أن سمعته في محاضرة للدكتور محمد مهدي احمد ، ألقاها بقاعة الشارقة في جامعة الخرطوم ، في إطار ندوة العلامة عبد الله الطيب الأسبوعية .

ولكن التخريج المشهور والشائع لدى سائر السودانيين هو أنّ الشافع إنما سُمي "شافعاً" لأنه سوف يشفع لأمه وأبيه يوم القيامة ، وليس ذلك بشيء في نظري ، بل هو تخريج متمحِّل وبعيد النجعة مما يسمى بتخريات العامة أو Folk etymology .
ومما يرجح نوبية أصل كلمة " شافع " السودانية هذه بمعنى " طفل "، كون أنها لا تكاد تستخدم إلا في وسط وشمال السودان حيث يعظم تأثير اللغة النوبية. فأفراد القبائل العربية والمستعربة في غرب السودان مثلا ، لا يستخدمون كلمتي " شافع " و " شفع " في كلامهم الأصلي غير المكتسب عن طريق التأثر ، أو الاحتكاك والاختلاط بسكان السودان النيلي. ذلك بأن الألفاظ الشائعة للتعبير عن كلمات مثل " طفل " و " أطفال " ، هي ألفاظ من قبيل: وليد .. وليدات أو ليدات ، جاهل .. جهال ، سغير .. سغران ، وكذلك عيال وعويلة الخ.
كذلك فإن لبعض القبائل المستعربة بشمال السودان ، والشديدة التأثر باللغة النوبية تجربة أخرى في تعريب لفظة نوبية صميمة ، وذات صلة – لحسن الحظ – بالطفولة وهي كلمة " بِتان " النوبية بكسر النون ، التي تعني: الذرية أو الأطفال ، والتي عربها الشايقية إلى " بُطان " بضم النون وتحويل تائها ( الأعجمية ) إلى طاء ( عربية ) فصيحة.
على أنّ شدّ ما لفت انتباهي في محاضرة الدكتور محمد مهدي تلك ، أنه ربما يكون قد جاء بالقول الفصل في تخريج واحدة من أكثر ألفاظ العامية السودانية خصوصية وغموضا من حيث الدلالة في آن واحد ، ألا وهي كلمة " ساكِتْ " التي تأتي في العامية السودانية بمعاني: هكذا ، سدى ، فحسب ، وفارغ. ويعجب أخوتنا العرب – وحق لهم أن يعجبوا – عندما يسمعوننا نصف كلاماً ما بأنه " كلام ساكت ! ". فوفقاً للدكتور محمد مهدي ، وهو عالم لغوي ، وفوق ذلك هو نوبي محسي ، ذو معرفة عميقة ، وحساسية عالية بدقائق لغته الأم وأسرارها ، أن " ساكت " العامية السودانية هذه ، هي مجرد تعريب للفظة النوبية " هُسَّنْ " بضم الهاء ، وتشديد السين مع فتحها ، ثم تنوين بفتحتين أو نون ساكنة. ومعناها في النوبية هو كما قال: سدى ، بلا هدف محدد ، أو بلا معنى مقصود. ولما كان السودانيون في عربيتهم الدارجة يستخدمون لفظة " هُسْ " بهاء مضمومة وسين ساكنة كإسم فعل أمر بمعنى " اسكت ْ " ، فقد ساغ لهم أن يعربوا " هُسّنْ " النوبية العتيدة التي بمعنى " سدى" ، بساكت العربية التي يعرفونها في هذه اللغة. وهذا لعمري تخريج جدير بالوقوف عنده.
هنالك لفظة في العامية السودانية هي من غربيها قطعاً ، ولدي إحساس ذاتي قوي بأنها ربما تكون هي الأخرى ، معربة عن لفظة السودانية قديمة ما ، ربما كانت هي النوبية في الغالب ، وهي كلمة "الجديد" بمعنى مناسبة: "الزواج" أو "الختان". وكل امرأة سودانية تتمنى أن تحضر "جديد" أولادها، وأحفادها، وبناتها وحفيداتها. فما هو هذا الجديد ؟ هل هي جدّة التجربة يا ترى ؟!
And what is new about it ? . سألت بعض الأصدقاء من المحس والدناقلة فما أفادوني بشيء .

أما عبارة "بيت البكا" كما في العامية السودانية بمعنى مكان العزاء أو المأتم، فهو تعبير نوبي في الأصل ثم تعريبه لاحقاً بحسب الدكتور محمد مهدي .

حاول الأستاذ عبد المنعم أن يناقض ما استقر عنده معظم الباحثين من أن كلمة "تيراب" العامية السودانية بمعنى "الحبوب التي تبذر في الأرض" من أنها مأخوذة من النوبية "تيرى"، فهو يميل كما هو واضح إلى القول بعروبة أصلها . وقال في هذا الخصوص أن تيراب" قد وردت في معجم لسان العرب كواحدة من صيغ كلمة تراب".

ولكن عجب الفيا لا يفيدنا عما إذا كانت "تيراب" العربية التي تأتي بمعنى (تراب) المقصود بها البذور أو الحبوب التي تبذر أم لا . كما أن الكاتب لم يذكر لنا بيتي المتنبي والعقاد اللذين أشار إليهما في مقاله ، لكي يبين لنا ماذا يقصدان بتيراب في بيتيهما على وجه التحديد.

أما العقاد ، فلأنه من أسوان في قلب بلاد النوبة المصرية ، فمن الجائر أن تكون كلمة تيراب تعني عنده (البذور) ، ذلك بأن عرب بلاد النوبة المصرية يحتفظون إلى يوم الناس هذا، بألفاظ نوبية كثيرة في لهجاتهم ، مثل كلمة "ويكة" على سبيل المثال .

على أننا نؤيد عبد المنعم فيما ذهب إليه من تأكيده لعربية الفعل "فرّ" الذي يعني في العامية السودانية معنى: اضطرب وانتفض فجأةً بسبب الخوف ، أو اللهفة ، وعدم نوبيتها .

ومن الأمثلة الرائعة للفعل العامي (فرّ) بمعنى خفق وانتفض فجأةً بسبب اللهفة قول محمد عوض الكريم القرشي ، وغناء عثمان الشفيع :
شفتو مرة حاجبو قمرة
منحني نظرة قلبي فرّ
يا الاخدر .. لونو زرعي !!

فمن المؤكد أنّ أصل هذا الفعل عربي وليس نوبي ، كما ذهب الأستاذ عكود إلى ذلك ، وأن اشتقاقه هو من الفعل العربي الفصيح "فرّ .. يفرُّ .. فراراً". ولقد أجاد عجب الفيا عندما ربط لفظياً ودلاليا بينه وبين طائر ( الفِرَّة ) بكسر الفاء وتشديد الراء مع الفتح .

وبالمقابل ، فأننا نرى أن الكاتب لم يوفق في محاولته رد نوبية أصل كلمة "دفيَّق" بمعنى البلح الأخضر ، ولا ادري من أين جاء بتعريف الدفيّق بأنه : "ما يتدفق من عسيل الثمر قبل نضوجه"، وهل هو من كلام العرب القدماء كما هو مثبت في بعض المعاجم وكتب اللغة ، أم أنه من كلام أهل السودان في عربيتهم المحكية . أما بيت الأغنية الشعبية (القمر بوبا) الذي استشهد به الأستاذ عبد المنعم ، ففيه بالأحرى تأكيد على أنّ الدفيق هو البلح الأخضر تحديداً ، ولا شيء غيره. ذلك بأن وصفه بأنه "دابو نيْ" تجيء تأكيداً للمعنى. والمنطق يقول إنه إذا كان الثمر فجّاً أو نيئاً ، فسوف لن يكون له عسيل يتدفق مطلقا.
وبالمناسبة ، فإنّ نص أغنية ( القمر بوبا ) ، هو نص شعبي مجهول المؤلف ، كان منتشراً في ديار الشايقية من قبل أن يولد إسماعيل حسن نفسه بعقود ، وهو قطعاً ليس مؤلفه. بيد أنه يقال أن الحاجة حدّ الزين بنت إسماعيل ، والدة ذلك الشاعر الكبير ، وكانت شاعرة بلا ريب ـ قد أضافت إلى هذه الأغنية الخالدة المقطع الذي يقول :

الديوان الديمة مفروش
بالحرير الأصلي مفروش
بالزهور والورد مرشوش
ريحتو مايقوما بلا رتوش
كان ده وصفو وماهو مغشوش
كتّروا الزايرنو في الحوش

وأخيراً فأن (الشَكْشاكة) بمعنى المطر الخفيف المستمر والمتواصل النزول ، ربما كانت بالفعل من العربية ، كما يذهب عجب الفيا إلى ذلك ، فهي مشتقة من الفعل (شكّ .. يشكّ) بمعنى طعن أو غرز بشكل متواصل على سبيل المجاز .

ولعله يكون من المشترك مع النوبية أيضاً. وفي كردفان يسمون طيور الزرازير (الشِكشِيك) بكسر الشينين ، واحدتها " شكشيكاية " وليس شكشيكة يا هذا ، لأنها "تُشْشِقْ" كما في الفصيح بصيرورة القاف كافا وهذا جائر ، ولكن يجوز أيضا لأنها (تشكشك) السمع ، أي تطعنه وتشكّه مراراً بزقزقتها المتواصلة المزعجة ، والله أعلم.

مجتبى ميرغني
09-14-2011, 04:17 AM
موضوع رائع وقيم جدا ومفيد مشكوووور اخونا عمر

الهادي الامام محمد
09-14-2011, 08:40 AM
البحث عميق كمالبحر عميق تحضرنى الاية الكريمه قال تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين
فالبشر خلقوا من اب واحد ثم تفرقوا واختلفوا لعمارة هذا الكوكب ثم دعت الحمكة الالهية والظروف المختلفه من سياسيه ودينية واقتصاديه ومعيشية ان يجتمعوا : (وجلعناكم شعوباُ وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم)
حسب تحليلي واستناد للاية من المستحيل ان تكون الالسن واحدة ولكن تتاثر ببعضها حسب الحكمة من تجمع الشعوب والقبائل ببعضها والتأثر يكون حسب الهيمنه الثقافيه والاقتصاديه فتتداخل كلمات بين الالسن خاصة ذات الحاجة للاستخدام وبمرور الزمن تصبح جزء من اللغة او اللهجة التى تتناولها هذه القبيلة او تلك
فبالاضافة الى ما جاء بالبحث قد اطلعت مسبقا على كثير من افراد عاميتنا التى اعرفها فوجدت معظمها عربية فصحى الا انه ليس لدي خلفيه باللغة النوبية التي كانت سائد والتى لاشك قد تأثرت بها لهجتنا في الوسط فاوضح هذا البحث ايضا تماذج بين لهجتنا في الوسط واللهجة النوبية ومن الكلمات التى لم اجدها في العربية هى كلمة العنقريب فاتت في هذا البحث من اصل نوبي (انقرى)
ومن كلماتنا التي نستخدمها (الجرايه او الشكشكا) فهى الاله التي تشك بها الارض بانتظام ومن ذلك آلة الخياطه (شك وتطريز)
فاللغة كالتيار المتجدد لاتظل على نمط من الصيغ بل تتاثر بالعوامل المتجدده والتماذج بين البشر ذوى الالسنه المختلفه فتاخذ وتعطى حتى تصبح على شكل مختلف على ما كانت عليها وربما تنقرض بعض اللغات نتيجة للتأثيرات القوية
ويظل البشر دائما يبحث عن ان اصله الغائب في لغة او عادة او ثقافة او حتي رقصة كان يرقصها اجداده فالفخر والاعتزاز بالاصل والاصالة غريزة في نفس البشر هذبها قوله تعالى ان اكرمكم عند الله اتقالكم

عمر محمد الأمين
09-15-2011, 07:46 AM
شكرا مجتبى على المرور الكريم،
و مشكور يا شيخ الهادي على الإضافة،
======
الموضوع بفتح ليهو طاقات كتيرة ومتعددة،
فمن المعروف أن اللغات الأوربية بها الكثير من المفردات العربية،
كما أن العربية بها مفردات كثيرة فارسية ورمية و هندية وسنسكريتية وحبشية،
وحاليا بعد التقدم العلمي و الحضاري للغرب بها الكثير من المفردات الإنجليزية و الفرنسية وغيرها
و فيما يلي بعض من المفردات العربية في اللغات الأوربية:
mameluke مملوك ،
sultan سلطان ،
sheikh شيخ ،
muezzin مؤذن ،
mufti مُفْتٍ ،
cadi قاضِ
carat قيراط ،
Tarrif التعريفة الجمركية،
alcohol الكحول ،
sash أو shash شاش ،
roc طائرالرُّخ،
Giraffe زرافة
==
أما عندنا في وسط السودان و في الجزيرة على وجه التحديد تجد كلمات إنجليزية صارت متداولة في الدارجة عندنا خاصة في الزراعة
major الميجر
وcanal الكنار
dics الديسك بل أصبحت تصرف دسكت الحواشة وأحسن ليك تدسك الواطه عشان النجيلة
وpest control البص كنتول ( وهذه الكثير من شباب اليوم لا يذكرونها لأنها مما انقرض مع بدء تدهور المشروع.

و لدينا مقالات للأستاذ عبد المنعم عجب ألفيا عن ألفاظ اللهجة السودانية في القرآن الكريم و ستأتيك قريبا