المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منابع النزاع: قضية الأطبّاء مثالاً (2من 4)


عمر محمد الأمين
03-12-2011, 06:47 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
منابع النزاع: قضية الأطبّاء مثالاً (2من 4)
د. عبد المنعم عبد الباقي على
[email protected]
الحلقة الثانية:
تحدّثنا في الحلقة السابقة عن وضع وزارة الصحّة الاتّحاديّة وعن انعدام الرؤية وضبابية الهدف والرسالة وخمول الهمّة والدّافعيّة وضمور الكفاءة وعتامة الشفافية وتراخى المحاسبة وضعف الإيمان والأمانة.
وبرغم هذه الفوضى الضاربة في نسق وزارات الصحّة في السودان سنسوق مثالاً يبعث الأمل في النفوس اليائسة ثمّ ندلف إلى تقييم حال الأطبّاء النوّاب. ففي السنوات الأخيرة بدا بصيص أمل إذ بدأت ولاية الجزيرة في مشروع تقديم الرعاية الصحيّة الأوليّة، بناءً على جهود جامعة الجزيرة التي انتهجت منهجاً مخالفاً لكلّ الجامعات السودانيّة، وكان لها قدم السّبق في التركيز على المجتمع وتدريب طلاّبها وربطهم بمجتمعهم. وهى كما يبدو جزء أصيل من مشروع الرعاية الصحية الأوليّة، إذ سوف ينتسب إليها أطبّاء الأسرة، وسوف يستفيدون من التقنية الحديثة لإكمال درجة الماجستير في مجالهم، وآمل أن تكون في الحقل الإكلينيكى وليس الأكاديمي.
وإذا نحن ذهبنا نقيّم حال الأطبّاء النوّاب فهم لا يقلّون مرضاً عن وزارتهم، فهم نتاج نظام تعليمي قام على أسس سياسيّة وليست علمية منذ تغيير السلّم التعليمي، الذي غُيّر من دون سببٍ إلاّ لأنّ انقلاباً حدث بالبلاد سُمِّى بثورة مايو، والثورة سنّتها التغيير. وقد قيل في الحكمة "لا تصلح ما لم يُكسر"، ومن ثمّ جاءت ثورة أخرى سمّيت بثورة التعليم العالي، فانتشرت الجامعات بلا موارد ماديّة ولا منهجيّة ولا بشريّة، فباعوا النّاس الوهم، واستثمروا في أحلام الآباء والأمّهات، فإذا بهم يسترخصون الغالي من أجل مهجة أفئدتهم، فازدادوا فقراً على فقرٍ يتعشّمون الغد المشرق بالمكانة والعيش الرّغد، فإذا بآلاف الأطبّاء ينتشرون في الأرض كلّ عام، كما تخرج الفقّاسات الكتاكيت ضعيفة مخصيّة لا تخصّب، عقيمة الطعم والمعنى والمحتوى، لا تنفع إلا للاستهلاك، وليس فيهم دعائم النّماء والرفعة لأهلهم أو لوطنهم، ومن كان فيه روح وثّابة وطموح للعلم فغذّى فؤاده بمعارف العلم باجتهاده الخاص، لم توفّر له سبل العمل أو التدريب أو الترقية والإبداع.
ثمّ بثّت بهم مصانع التعليم في مخارج الأرض بلا خارطة طريق وبلا معين إلا الله، وكفي بالله معينا، فمنهم من نجا وغادر الدّيار يضرب في أرض الله الواسعة يبغى علماً ورزقاً، ومنهم من التحق بدورة تدريبيّة داخليّة، ومنهم من ينتظر، ومنهم من جنت عليه الليالي فلا طبّاً أدرك ولا طريقة للرجوع إلى خالي أيّامه وجد فلاذ بالبطالة أو تَكَسُّبِ العطالة.
ومن ظنّ أنّ دهره قد ابتسم له وجد في مكان تدريبه مشافي بلا رقيب أو مُدرِّب أو موارد أو زاداً يكفيه ذلّ السؤال، فانقلب إلى أهله بحسرة في عيونه يطلب السند والمدد، فزادهم رهقاً وانطفأ الأمل في قلب أهله من قدوم اليوم الموعود بالسعد.
وحمل الأبناء ضميراً مثقلاً بالتّأنيب فباعوا عطاءهم للمشافي الخاصّة، تمتصّ رحيقهم بالليل وأطراف النّهار وتعطيهم فتاتاً لا يسدّ رمقاً، وهم مطالبون بذات الوقت بالدراسة والعمل في المشافي الحكوميّة، كأنّهم ثيران الساقية لا تملّ ولا تكلّ. فأين الصحّة هنا؟
نخلص من ذلك أنّ الحكومة أيضاً تجانبها العافية، مادّيّاً ونفسيّاً واجتماعيّاً وروحيّاً بلا موارد عينيّة أو بشريّة، وبأولويّات مختلّة، ورؤية غائمة، وعُجباً بالرأي، وإتباع الجهّال المتحذلقين بغير دليلٍ ولا هدى منير، ووضع استراتجيّات متفرّقة لا تنسيق بينها، وتخطيطاً لا يضع المواطن في قلبه لن يلد غير ثلاث وزارات مريضة، هي، إن صحّت، سبب تقدّم الأمم ورقيّها وحضارتها، وهى التعليم العالي والصحّة والبحث العلمي، فأنتجت بدورها أطبّاء هم أولى بالعلاج من غيرهم، فكيف بالله يعطى فاقد الشيء بلسماً لغيره؟
لقد نسى الحكّام من زمرة الشعب، منذ زمانٍ بعيد، أنّ التّعليم والعلاج، ورثة الاستعمار، هما لبنات بنيتهم التي مهّدت لهم الطريق ليصبحوا قادة، في وقت لم تكن فيه طرق ولا جسور ولا سدود، ولولاهما لما استطاع آباؤهم الإنفاق علي تعليمهم وعلاجهم.
فكيف ينسون ماضيهم وأهلهم في عوزٍ ومرضٍ وجهلٍ لا يملك أبناؤهم نفس الفرص في التعليم والعلاج والوظيفة؟
خلصنا إلى أنّ الوطن مريض ماديّاً ونفسيّاً واجتماعيّاً وروحيّاً ،ومن كانت هذه سمته فلا يعقل أن تتوقّع منه صحّة، إلاّ إذا انتهج منهجاً آخر يقلّل الخطر ويدرأ الضّرر وينمّى العافية. ومن كثرت علله صعب علاجه وقد يكون شفاؤه في البتر لإنقاذ بقيّته.
لقد حرّم المولى عزّ وجلّ على نفسه وعلى عباده الظلم ونهى رسوله، صلّى الله عليه وسلّم، عن بيع المضطّر، بمعنى أنّ الطّبيب الذي يبيع خدماته بثمنٍ بخسٍ من أجل أن يكمل تدريبه إنّما يفعل ذلك اضطّراراً لا رغبة، ولو وجد فرصة أفضل لما مكث، في مكان يغمطه حقّه، كثيراً. وهو بمكان أكل حقّ اليتيم، واليتيم الذي لا ناصر له يدافع عن حقّه، وفي نظرنا فإنّ الأطبّاء النّواب ومن دونهم أيتام ومساكين، إذ أنّ نقابتهم ووزارتهم، اللتان تقومان مقام الأب والأم في حالتهم، تركتاهما للأيّام يتضوّرون جوعاً ويتجرّعون غصّة بدون الدّفاع عنهم أو القتال دونهم حتّى يردّوا لهم حقوقهم أسوة بإخوتهم في بقيّة الوطن.
وليس في سكوت النوّاب عن حقوقهم، وصبرهم على ما حاق بهم من ظلم، عذراً لنقابتهم ووزارتهم حتّى تغضّا الطّرف عن مصيبتهم فما المرعىّ بمسئول عن الرّاعي.
وهذا هو السبّب الثاني للنّزاع وهو ندرة الموارد أو سوء توزيعها وأهمّها المال فبدونه لا معنى للوظيفة المُصدّقة وهو وضع العربة أمام الحصان. ومن الغريب أنّ وزارة العمل، التي هي مسئولة عن سلامة العاملين وباستطاعتها إغلاق أي مرفق لا يوفّر المستوى الأدنى لسلامة عامليه، لا تظن أن المستشفيات من اختصاصها أو لو أنّ هذا افتراض خاطىء من جانبي فإنّها لم تحرّك ساكناً ولم نسمع لها صوتاً. فعمل الأطباء النوّاب لساعات طويلة بدون فترات راحة كافية، في مرافق صحيّة بائسة وبدون أجرٍ مجزٍ وتهديد بالفصل والعقاب فيه خرق واضح لحقوقهم ولسلامتهم ممّا يحتّم تدخّل وزارة العمل. بل إن في تقديم خدمة طبية لمريض من طبيب يمر بمثل هذه الظروف خطر على المريض وهو شيء أثبتته الأبحاث العلمية ولذلك فقد غيّرت الدول الأوربية نظام عمل الأطباء النوّاب وحدّدت ساعات عملهم.
يقول الدكتور كمال عبد القادر في لقاء مع الأستاذة حنان كشّة:
"كان السبب الرئيسي لوقوعها (يعنى مشكلة النواب) تأخر تسديد علاوة التدريب لنواب الاختصاصيين لثمانية عشر شهراً. الأمر كان بين وزارة المالية والمجلس القومي للتدريب التابع لوزارة العمل، وهنا كان يمكن لوزارة الصحة أن تجلس في مقاعد المتفرجين، حسب تعبيرك، لكنها تولت إدارة الملف ابتداءً من يوليو ألفين وتسعة وكانت واجبة السداد في يناير 2008م بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في نوفمبر 2007م، وقد أقرت وزارة المالية بعد مكاتبات عديدة بأحقية النواب في العلاوة وبدأ صرفها شهراً بشهر ابتداءً من أكتوبر 2009.فبعد تصدي وزارة الصحة لحل المشكلة تمت مكاتبات عديدة بيننا ووزارة المالية أقرت إثرها الأخيرة في أكتوبر 2009م بأحقية نواب الاختصاصيين في صرف مستحقاتهم، وبدأ الصرف في أكتوبر من العام الماضي شهراً بشهر لكن برزت مشكلة فرعية تتمثل في كيفية معالجة صرف المتأخرات، واتّفقنا في النهاية على صرفها بأقساط حتى أبريل المنصرم ولا يوجد أي تأخير حالياً في صرف العلاوة،بجانب ذلك كانت هناك متأخرات في المرتبات.
والسبب الجوهري إجرائي، حيث كان نائب الاختصاصي يأتي مترقياً من وظيفة الطبيب العمومي ويظل يخدم هناك حتى يمكن تسوية حقوقه المالية، لكن ما قمنا به في العامين الماضيين في ما يتعلق باستيعاب نواب لم تتوافر لهم وظائف من الوزارة أصلاً، وكانت الوزارة تهدف من ذلك حل إشكالية عطالة الأطباء.
كان النائب يسدد لمجلس التخصصات الطبية عشرين مليون جنيه ويظل بدون مرتب لأربعة أعوام، وكان عدد الذين تستوعبهم وزارة الصحة في العام الواحد يتراوح ما بين 90 إلى100 طبيب، وفي تلك الفترة استوعبت الوزارة (1200) طبيب في العام 2008م،و(1800) طبيب في العام 2009م، والهدف من الزيادة الكبيرة، كما أسلفت هو محاربة العطالة وسط الأطباء من جانب، وزيادة أعداد المتدربين لنتمكن من الحصول على عدد كبير من الاختصاصيين القادرين على تقديم الخدمة في أنحاء البلاد المختلفة، وأدى ذلك لتأخير الإجراءات داخل وزارة الصحة ووزارتي العمل والمالية بالرغم من أن الوظائف كانت مصدقة.
وقد أخبرناهم منذ البدء أن مرتباتهم لن تسقط بالتقادم وسيتم تسويتها منذ تاريخ استلامهم العمل، وبالفعل تمت التسوية مع متأخرات العلاوات وهذا هو الجانب المطلبي الذي نعرفه والذي استجبنا له، لكن نشأت مطالبات أخرى من لجنة النواب تتعلق بتحسين ظروف العمل وتم الإقرار بأن شروط الخدمة الخاصة بهم أقل من الطموح، وشكلت الوزارة لجنة برئاسة البروفيسور حسن أبو عائشة لوضع مقترح لوزارة المالية والمجلس الأعلى للأجور.
طبيعة المقترحات التي تخرج عن مثل تلك اللجان لا يتم تنفيذها بين عشية وضحاها، لكن من وجهة نظري فإن نواب الاختصاصيين تسرعوا بإعلانهم الإضراب وعودتهم بعد ثلاثة أسابيع منه لذات المربع، لترفع اللجنة المقترح الذي كان من المفترض أن يكون قد رفع قبل ثلاثة أسابيع، وأنا أؤمن هنا أننا مع فكرة تحسين أوضاع العاملين في الحقل الصحي سواء أضربوا أم لم يضربوا.
في المشكلة استجبنا للجوانب المطلبية التي تتعلق بالحقوق ومن حق أي حزب سياسي أن يستغل المسائل المطلبية لأجندته وذلك ليس عيباً، لكن ما نطالب به هو طلاء السياسة لصالح قضايا الصحة وليس العكس، ومن حق أي سياسي أن ينتقد أداء الصحة وأداء حزب معين لكن مع (ذلك) يطرح برنامجه البديل."
أوّلاً الدكتور كمال عبد القادر كان على علمٍ تام بحال الطبيب السوداني وقد حضرت له محاضرة وعرضاً في اجتماع الإستراتيجية الخمسية للصحّة في عام 2007 عن هذا الموضوع وقد كانت من أبدع ما سمعت ورأيت أما كان من الأجدى أن يسعى لرفع هذا الإجحاف لدى ولىّ الأمر، بمجرّد تقلّده أعباء وظيفته، لإحقاق الحق قبل أن يصير صراعاً تحلّه قرارات فوقيّة غير مؤسّسيّة عجولة كالمسكّنات، كحالنا في حلّ الأزمات بخلق أزمات أخرى، سرعان ما يزول أثرها ويستفحل المرض؟ يتضح من كلام الدكتور كمال عبد القادر أنّ المشكلة لم تكن في العلاوات المتأخّرة فقط وإنّما المرتبات أيضاً، بمعنى أنّ الأطباء كانوا يعملون بلا دخل، ولربما لم تستجب وزارة المالية لطلب وزارة الصحة على فرضية أنّ النوّاب يتقاضون راتباً في المشافي الخاصّة ولذا فلا تعتبر مرتّباتهم، على قلّتها، أولويّة. وقد ذكر البروفسير مأمون حميدة في الأسبوع الماضي أنّ النوّاب استطاعوا الصمود لمدّة طويلة لأنّ معظهم يعمل في القطاع الخاص.
ثانياً الوزارة لم تستوعب 1200 طبيب في عام 2008 و1800 في عام 2009 بلا تخطيط بل كان ذلك ضمن إستراتجية الموارد البشريّة العشريّة 2004-2014 والتي لم تطبّق حسب الإستراتيجية بواقع زيادة الاستيعاب ب 500 طبيب في كل عام حتى وقت إستراتيجية الصحة الخمسية في 2007 والتي أوضحت أنّ عدد الأطباء الاختصاصيين لا يتعدّى الألف بينما العدد المطلوب 5000 يعنى بفارق 4000.
ذلك يعنى أنّ الوزارة كانت لديها إستراتيجية وخطّة منذ عام 2004 على الأقل لاستيعاب مزيد من الأطباء فلماذا لم تسع الوزارة لتأمين التمويل أوّلاً بعد تصديق الوظائف قبل عملية الاستيعاب؟ كيف تأخّرت الإجراءات داخل وزارة الصحّة وهى من أهم خططها؟ وماذا كان دور إدارة التدريب والطب العلاجي في متابعة المسألة مع وزارتي العمل والمالية؟ لماذا تنتظر الوزارة إضراب الأطبّاء حتى تكوّن لجنة لتحسين شروط الخدمة الخاصّة بالنوّاب؟
الوزارة ليست فاعلة خير حتى تقرّر أن تجلس في مقاعد المتفرّجين وما كان ينبغي لها بل هي المسئولة أوّلاً وأخيراً عن مستخدميها لأنّها المستفيد الأوّل من النوّاب في تقديم الخدمة، وقد رأينا ما حدث عندما أضربوا، وهى التي تضع استراتيجيات وسياسات الصحّة في البلاد. لماذا ترضى الوزارة لمنسوبيها بالدّونيّة وتقبل عملهم بغير أجر حتى وإن كان أجرهم لا يسقط بالتقادم. أي دولة تريد خدمة نافعة ونوعية من موظّفيها لا يجب أن تشغلهم بهموم المعيشة وقد عملنا في دولٍ كثيرة ولم يتأخّر راتبنا ولا يوم ولا أظنّه يتأخّر في السودان لمن يعتبر من مُهمِّي الدولة.
هذا هو السبب الجوهري للمشكلة وليس إجرائيّاً كما يقول الدكتور كمال عبد القادر ولكنّه يريد أن يغطّى على عدم كفاءة من ورث منه هذه التركة المثقلة فهو ليس مبتدعها وأعلم أنّه سعى لإصلاح ما يمكن إصلاحه ولكنّه لم يراجع أداء الوزارة مراجعة موضوعية ولم يعلن عن موطن الخلل بشفافيّة ولم يحاسب أحداً على ما حصل أو يغيّر طاقم الوزارة الذي ظلّ فيها لأكثر من عقد بدون عطاءٍ أو فعلٍ حقيقي غير إضافة الدراسات والاستراتيجيات والسياسات إلى صفحة الوزارة العنكبوتية حيث تُقبر بدون متابعة أو تنفيذ .
صحيح أنّ الأشياء لا تُحل بين عشيّة وضحاها، ولكن كان الأجدى أن يقال ذلك للأطباء قبل الاتّفاق معهم، وهم في حالة انفعال وفقدان ثقة في طاقم الوزارة لا تسمحان بالتفكير الحكيم، حتى لا تتفاقم المسألة ولكن ظني أنّ الوزارة، وهى جزء من الحكومة، جزعت من نتائج المسألة قبل الانتخابات، ولا بدّ أنّ السّاسة ضغطوا عليها لإنهاء المسألة بأسرع ما يمكن حتى انتهاء الانتخابات، وبهذا خرجت الوزارة عن مهنيّتها، بالسماح لجهات خارج حدودها بالتدخّل.
الوزارة نسيت أنّها مسئولة عن الأطبّاء وليست عن الحكومة. فإذا كانت الوزارة لا تريد من الآخرين استغلال المشكلة سياسيّاً لأمر في نفس يعقوب كان الأولى أن لا تستغل الحل لنفس الغرض.
هذه اللامبالاة بهموم المواطن العادي، والتي تضرب بأطنابها في كلِّ دواوين الحكومة، هي أمّ البلاء وهى من المقعدات والمعوقات أمام تقدّم السّودان وهى لها علاقة بالشخصية السودانية. وخير مثال تنادى النّاس بضرورة الوحدة وأهميّة العمل لها في آخر شهور الفترة الانتقالية وقد كان عندهم من الزمن الكافي الذي ضيّعته عدم المبالاة وإذا كان هناك ما يوحّد السودانيين في أرجاء القطر كافّة فهو اتّفاقهم في صفات الشخصية السلبية التي يتميّزون بها عن بقية الشعوب.
فلا غرو أن يثور النّواب على الظلم، ونقابتهم ووزارتهم تؤكّدان شرعيّة مطالبهم بل ويصرِّح وكيل وزارتهم الدكتور كمال عبد القادر أنّ الخادمة في المنزل لا تقبل أجرهم.
أمّا نقابة المهن الصحيّة فلها شأن آخر فهي قالت على لسان رئيسها أنّ النّقابة طلبت بتحسين الأجور منذ عام 2004 ثمّ ماذا؟ لا شيء انتظرت. تنتظر ماذا؟ هبة أو صدقةً؟ إن كان ما تطلبه حقّاً فلا عذر لها في السّكوت وإن كان صدقة فلا حقّ لها فيما سألت. والأغرب أنّها تهدّد بالإضراب إن هي لم تعط ملف قضيّة النّواب وكأنّها اكتشفت لها أسناناً تعضّ بها بعد الهرم. أما كان الأجدى أن تسعى لأعضائها، الذين منهم أكثر الوزراء، تقضّ مضاجعهم حتى يولوا أمر الصحّة اهتماماً وينصفوا إخوتهم وحال مواطنيهم؟
حان الوقت لتحليل توجّهات النوّاب ولجنتهم والطريقة التي أداروا بها قضيّتهم وسنتعامل معهم كعلماء من الواجب عليهم اتّخاذ المنهج العلمي وسيلة للتفكير والتخطيط والتّنفيذ. ونبدأ بقولنا أنّه ليس هنالك أسوأ من الاعتماد على الافتراضات. الحقائق لها براهين ولذا تصبح حجّة أمّا التحجّج بما يجب أن يكون ونفي ما هو كائن لا يجنى من ورائه صاحبه إلا مشقّة وألماً لا راحة وسلوى.
للمصريّين مثل يقول: "الذي أوّله شرط آخره نور". وهذا المثل الحكيم يلخّص كنه أوّل أسباب النزاع بين متعاقدين. فإذا لم يكن هنالك عقد عمل واضح بتوصيف للوظيفة المتعاقد عليها وما فيها من واجبات وحقوق، بحدود واضحة لما يجب فعله وما يجب تركه وما يجب توقّعه من أجر وشروط خدمة، فإنّ ذلك يفتح مجالاً للتفسير الشخصي والاختلاف.
فالعقود الضمنيّة قد تؤدّى وظيفتها لسنين عدداً حتى ينشأ خلاف وحينها تصير جزءاً من المشكلة والتي قد تؤدّى لتعقيدها. ووزارة الصحّة الاتّحادية أكملت كُتيّباً عن التوصيف الوظيفي ألحقته بصفحتها على الشبكة العنكبوتيّة منذ سنين ولكنّها لم تطبقه، ولو أنّها فعلت لكفت نفسها شرّ الخلاف مع موظّفيها. وقانونيّاً التعاقد الشفهي بين صاحب العمل والعامل جائز، ولكنّه من غير شهود، وقد لا يحفظ حقوقاً إن أنكرها صاحب العمل ولذلك مثل هذه العقود النّاقصة تتمّها الصبغة الأخلاقية التي جانبت حتى الآن وزارة الصحّة الاتّحادية .
وسنواصل بإذن الله تعالى ودمتم لأبى سلمى