|
المنتدى :
منتدى السياسة والفكر والأدب
كاتب عماني يرثي الفيتوري بقلم / حمود بن سالم السيابي
بتاريخ : 06-10-2015 الساعة : 05:08 AM
[CENTER]كاتب عماني يرثي الفيتوري بقلم / حمود بن سالم السيابي
أيها السائق .. رفقا بالخيول المتعبة
____________________
بقلم / حمود بن سالم السيابي
___________________
بموت الفيتوري تهوي نجمة من سماء دارفور , وتنتحب دفوف الطريقة الشاذلية , ويتلعثم الاكورديون , ويضطرب السلم الخماسي للموسيقى السودانية , وتمتنع قوافل نياق السلطان علي ابن دينار عن المسير إلى الحجاز حاملة كساء الكعبة .
وقد حملتني الاقدار في ثمانينيات القرن الماضي إلى بلد ( المامبو السوداني) قبل ان يتشظى الى سودانين ، ومائة دويلة وقبيلة وإمارة .
يومها كان جعفر نميري لا يزال ببزته الخضراء يملأ هضاب السافانا , ويهز بعصاه نمور السودان , ويزجر فهودها من أن تشرب من مياه نهر عطبرة .
وكان رفيقا الرحلة بالسيارة من الخرطوم إلى ولاية كسلا , ديوان أغاني إفريقيا للفيتوري ورواية الهجرة إلى الشمال للطيب صالح . وكان خط السير بمحاذاة النيل الأزرق المتحدر من أثيوبيا وتحت قباب أشجار الدوم الباسقة كنخيل بلادي.
كل الوجوه التي تتابعت من مرآة السيارة البيجو التي أقلتني كانت قرمزية كوجه الفيتوري , وكانت بنية كبشرة الطيب صالح .
وحين تسرع البيجو تبدو هامات الرجال كأشباح ترتفع إلى السماء لتقطف الأنجم , وتبدو الصبايا بجحال الماء على رؤوسهن كأسراب غيم تستسقي ينابيع السماء .
وبينما تصطف المدن على خارطة الدرب بدءا بالخرطوم فأم درمان فحلفا وانتهاء بكسلا , كانت قصائد الفيتوري تشعشع هي الأخرى , كأناشيد محمد الوردي ومواويل عبدالكريم الكابلي .
والمسافر بالسيارة برا بين مدن السودان كالمتصفح للقصائد الفيتورية, ففيها السودان كله بريفه البكر , وصحرائه الساحرة , وأنهاره الحالمة , بل فيها أفريقيا السوداء المنغرسة كرمح على ضفاف المتوسط وحتى تكسر الأمواج في الرجاء الصالح .
وفي كل دواوينه ينام الخوف والاطمئنان على وسادة واحدة , وهو لا يتعب قارئه في التنقل بين الألوان , حيث يطغى اللون الأسود على لوحات قصائده , ولكن بفلسفة التدرج في الاستخدام بين لون الكحل ولون الذل , وبين رعشة الهدب وارتعاشة الموجوع من سياط الاستعباد , وبين لون الجدائل ولون القيود , وبين لون الظلام الذي يلقي بكلكله على صفحات النيلين الأبيض والأزرق , ولون الظلم الذي يعشعش القارة السمراء .
وفي قصائده تصطخب إفريقيا بطبولها وجنونها , وثورتها وتمردها, فيحتار المقارب لقصائده بين الاستمتاع بلون السافانا تغزلها الأنهار وقطعان الأيائل, وبين الخوف من تجار الموت وآكلي لحوم البشر, وبين صيادي الوحوش وتجار وحيد القرن, وأنياب الفيلة وجلود النمور.
وفي قصائده تجمح إفريقيا بخيولها الوحشية , وعقبانها التي تلتقط طرائد بحجم الجواميس فتطير بها كساحرة تتشح الخرز والقرون وهي تنقل غنائمها لتحتفل بها مع أطفالها في كهف يتلفع غموض قارة أخرى .
ورغم شيوع مقولة أعذب الشعر أكذبه , فإن قصائد الفيتوري تقلب المعنى ليكون أعذب الشعر أصدقه , فهو يكتب بليل إفريقيا وكحلها , وغموضها وذلها . فتتجلى في قصائده روح افريقيا الثائرة وأغانيها الراعفة , وأنهارها وسدودها , وطبولها التي تدفع النيل ليجري من فيكتوريا الى الابيض المتوسط .
وبموته تتيتم إفريقيا , ولكن ساحرها الذي انبثق يوما من تراب دارفور , وتعلم الشعر من رغاء نياق علي ابن دينار , وعشق الأسود لون كساء الكعبة الذي يزف إلى الحجاز على هوادج من نور , سيعود إلى الأرض , لينغرس في باطنها تحت خف ناقة عربية مخضبة بحناء طينة نهر عطبرة وطمي النيل , وستورق أشجار قصائده لتجعل السودان أكثر اخضرارا .
وقد يرحل الفيتوري بجسده ولكن أغاني إفريقيا ستشعشع مع حفيف أشجار الدوم وارتعاشة السافانا وهي تطأطيء بشالاتها الخضراء لنسيم الهبوب .
وقد عشنا رحيل الملك الضليل , ولكن سقط اللوى والدخول وحومل لم ترحل معه , ونعيش رحيل الفيتورى ولكن جبل مرة سيبقى شامخا في قصائده , وسيبقى شعره بقاء نقطة التقاء النيلين في مقرن الخرطوم , ورعود إفريقيا التي تنذر بغضب عطبرة , وتبشر بفيضان النيل .
وتبقى صرخته أيها السائق معلقة بين السماء والأرض :
أيها السائق
رفقاً بالخيول المتعبة
قف ..
فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبة
قف ..
فإِن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه "
هكذا كان يغني الموت حول العربة
وهي تهوي تحت أمطار الدجى مضطربة
غير أن السائق الأسود ذا الوجه النحيل
جذب المعطف في يأس
على الوجه العليل ..
ورمى الدرب بما يشبه أنوار الأفول
|