[الهادي الامام محمد]

ثم دق الجرس ( يا عمر ) معلنا آفاق فجر جديد لحياة ذلك الطفل ومؤذنا بنور العلم وتبديد ظلمات الجهل ، تجمع الاطفال من كل حدب وصوب عند رنات الجرس واخذ بعض تلاميذ الصف الرابع (السناير) يقومون بتنظيمهم ، وتسوية صفوفهم في الطابور حيث بدأ الصمت المدقع والوجوم على المصطفين، وفي وسط الساحه وقف مدرس ذو هيبة وقامه (الناظر) ، وخلفة عدد من الاخرين ، والكل متجه ببصره ومحملق فيه، وبدأ باصدار تعليمات كثيره لانفهمها ثم جاء ما يسمى بالألفه ، بقائمة يتلو فيها اسماء المصطفين ، وكل من يذكر اسمه يصرخ بصوت عالي وما اهون واعلى الصراخ عند الاطفال (فاااااااندي) ، وبعدها يكون التفتيش على الملابس والاظافر والشعر للتأكد من الالتزام بسنن الفطره ، ويضرب كل من يخالفها بالمسطره على يديه الممدوده للتفتيش 0 كان الطابور على العراء اشبه بطابور الجيش من حيث التفتيش والصمت وطول الوقوف والتعليمات الصارمه0
ثم بدأ تلقى الدروس بالفصل الاول حيث كان جيمع تلاميذ ذلك الصف يجلسون على البلاط ويكتبون على الارض ولكنهم كانوا فرحين بهذا الجلوس فهو خير من الارض التى كانوا يجلسون عليها وقد احبوا ذلك الوسط ، حيث نشأت بينهم الصداقات وترقت الحواس والاذواق وتطورت المفاهيم وبدأت المسؤوليه والمساءلات لاول مره من خلال هذا الجمع المتحضر0
تم صرف كتاب العربي بواقع كتاب لكل تلميذين فقد كان كتابا جميلا ومشوقا ، به صور ملونه ، خلابة وجميله تستهوى الانفس ربما انها اول الصور التي تقع على عينيه ، احتوي على الكثير من الحيوانات التى راءها وكذلك التي لم يراها من قبل مثل، البقره والحمل والاسد والضبع والكلب والارنب والديك وغير ذلك وكلها وضعت كمدلولات لحروف ابجد هوز ، وأكثر ما اثار اهتمامه كلمة سلخ التى كان يرمز لها برجل يقوم يسلخ كبشا معلقا وقد انزل الجلد من اعلى الكبش حتى منتصفه ، فكان هناك رابطا قويا بين هذه الصوره وبينما كان يشاهده حقيقة عند القيام بعملية السلخ في عيد الاضحي من هنا كان اعجابه بها ، هكذا تألف النفس كل ذكريات جميله0
مشورة حفيظ
كما ذكرت قد توثقت العلاقات والثقه والصداقات بين اؤلئك، الاطفال حتى اصبحت تسودهم المحبه والالفه والمشوره في امورهم ومن اشهرها مشورة حفيظ التى علقت بذاكرته ما يقارب الخمسين عاما ، فقد كانت تعصب على ذلك الطفل مسائل الجمع والطرح في بداياتها، ربما لهيبة ذلك السوط الابتر الذي ظل يحمله المدرس كلما اتى ليلقى درسا في الحساب، فالخوف قد دخل على نفسه قبل دخول العلم عليها، حتى زعزع الثقه بها وبتصرفاته ، فذهب بأول مسائل الجمع والطرح لتحل له في البيت ، وقد تم له ذلك ، الا انه لم يثق بصحتها، فقام بعرضها على صديقه قبل عرضها على مدرسه ، فما كان من حفيظ الا ان محاها جميعا واستبدها بارقام اخرى ما انزل الله بها من سلطان، وكان المسح بقطن بلله بريقه ، وعندما عرضها على مدرسه نال الجزاء الاكبر، فقد شطب عليها المدرس باللون الاحمر من اول الصفحه حتى أخرها، لغلط الحل واتساخ الكراس فنال ذلك الطفل عقوبة نكراء من مدرسه، وبالبيت من والده نتيجة لمشورته الخاطئه ولكنه قد فهم الدرس جيدا منذ ذلك اليوم
جدول الضرب والاملاء
وفي تقدمه بالمدرسه عانى ايضا من عقبة كؤود تسمى جدول الضرب فقد كان الضرب صعبا على فهمه وقاسيا جدا على بدنه من قبل ذلك المدرس المتجهم ، حتى رسخ في ذهنه ان هذا جدولا منظما طول العام للضرب على تلك الاجساد النحيله وما دار فى ذهنه يوما انه ضربا للاعداد في بعضها، فكان هناك خللا كبيرا في افهامنا لهذا الجدول بأي وسيلة اخرى غير الضرب 0 من هنا اناشد اولياء التربيه الحديثه على حذف كلمة الضرب من ذلك الجدول البريء واستبدالها بكلمة رقيقة تذهب الفزع من قلوب الاطفال وان يوقف الضرب كوسيلة لحفظه الآلي واستدالها بوسيلة عقلية انسانيه 0
اما ما يسمى بالاملاء فكانت هناك كلمة قبيحه عانى منها ذلك الطفل كغيره من ابناء فصله كثيرا كانت هي كلمة ( اعــــــد) مع شطب المدرس على الاملاء تلقائيا دون تكليف نفسه لفرز الخطاء من الصواب
فكان يحس ان المدرس قد صب جم غضبه على كراسته قبل ان يصبه على جسده المتهالك ، الامر الذي لامحال منه ايضا ، كان العنف ايضا مصاحبا لهذه الماده ووقعه على ذلك الطفل كان قاسيا في المدرسه وفي البيت ايضا ، مما اثار الكراهية في نفسه وقد حاول والده حل الاشكال بشراء كتاب الامالي وهو نفس الكتاب الذي يستخدمه ذلك المدرس ، وفي ذات يوم قام الطفل بنقل نفس الدرس الذي أملئه عليه المدرس نقلا من ذلك الكتاب، وكم كان سعيدا عند توزيع الكراسات بعد التصحيح لينعم بدرجة (15من 15) الا انه فوجىء ايضا بأنها (اعـــــد) لا حول ولاقوة الا بالله عندها تيقن ان الخلل في معلمه اكثر مما هو حفظه0
شجرة آدم
مدرس الدين كان لطيفا وحصته مشوقه ، خاليه من العنف والضرب وكان يحدثنا عن قصص الانبياء وعن بدايات السيره النبويه وغيرها كنا نحبه كثيرا ولايخلو تدريسه عن بعض الطرائق التى علقت بالذاكره ، ففي اثناء حكايته لقصة سيدنا آدم ذكر ان الله تعالى قد منعه ان ياكل من تلك الشجره وعند سرده اشار باصبعه للخارج ونظر ذلك الطفل لاشارة الاستاذ لتقع عينه على الشجره التى كانت بالبئر القديمه (العد المنهار بالقرب من موقع الجزاره الحاليه ) فقد كانت المساحه بينه وبين المدرسه خالية من أي مباني، وتيقن الطفل ان تلك هي شجرة آدم التى اخرجته من الجنه وكان يخاف منها ويتجنب المرور بجانبها حتى وقتا طويلا من عمره ، خاصة في اوقات الخريف عندما تتجمع المياه حولها بكثره وقد زادت من قناعته بذلك ان جدته ايضا قد حذرته منها وأن هناك طفلا قد اخذته هذه البئر من قبل0
كانت الحكايات والمواقف كثيره وممتعه خلال سنى عمره في تلك المدرسه ومن اهمها كانت لقيمات بت الحضري وبت عيسى وبليلة حاجه عشه رحمهما الله ، فقد اصبح يحمل شيئا من النقود ليانس نفسه بتلك اللقيمات والتي كانت من الدوافع والوقود في سيرته الدراسيه ، كان الزحام شديدا للحصول عليها والخطف سنه ليست بالقبيحه ، وكذلك الضحك والشجار بين التلاميذ مسمرا ، واكثر ما يستمتع به كان تسسير الطيش في تظاهرة عصماء حتي بيته كانت فتره ممتعه ونقله ثقافيه من عالمه الضيق ليتسع له ما بين البيت والمدرسه 0
لايفوتنى ذكر الاساتذه الكرام والترحم على من ذهب والحفظ على من بقي منهم وهم0 الاستاذ فرج الله دوكه ، الاستاذ علي الهبيل، الاستاذ محمد فضل المولى، الاستاذ المشرف ، الاستاذ الصوتري، الاستاذ الطيب شاور ، الاستاذ محمد الامين الشوبلي ، الاستاذ احمد من العذيبه ، والحكيم محمد عوض الذي كان جزأ من المدرسين وقد اهداني ذات يوم صندوق حلاوه (ريا) جزاه الله خيرا وكانت اول هديه في حياتي كان قد التزم بها لمن يحصل على اعلى درجة في امتحان للتربيه الاسلاميه نظمه الاستاذ المشرف فقد حملت الصندوق لبيتى وعلقت صورة ريا على الجدار للنظر اليها بعد الاستمتاع بحلاوتها0

سلام اخوكم الهادي الامام – الى ذاكرة اخرى

[زهاوي عبد الجليل الامام]

أستاذنا الهادي سلام
أنت روح نبتت في قعر قلوبنا وإستوطنت الرئتين
فكانت أكسجيناً لخواطرنا!!
شكراً على هذا السرد الجميل!!
ولا يسعنا إلا أن نقول الهادي الإمام عالم جميل!!
متعك الله بالصحة والعافية وأنار قلبك بنور الإيمان.
خالص التحايا لك وللأسرة الكريمة.
دمت بود أستاذي.

[عمر محمد الأمين]

الهادي بمناسبة العودة للمدارس في السودان خلال هذا الأسبوع

كان الطابور الصباحي وبعد التفتيش للتأكد من النظافة وتقليم الظافر يشهد لحظات ترقب حذرة مملؤة بالخوف و الاضطراب خاصة إذا ظهر الناظر أمام الطابور،
يستخدم الطابور الصباحي لإنزال العقوبة بمن يخالف الضبط والانضباط السلوكي والاجتماعي بعد اليوم الدراسي من تلميذ بالمدرسة مثلا أن يتسبب أطفال يلعبون بالكرة في أن يجفل حمار براكبه وهو محمل بالقصب أو خرج القش وقد يتسبب في إسقاطه أرضا إن لم يكن راكبا حريفا وكل المطلوب من الشخص المتضرر أن يحفظ اسم شخص واحد من هذه المجموعة ويذهب ويشتكي للناظر أو أي مدرس ويترك الباقي على المدرسة!
وقد يحضر بعضهم صباحا في الطابور ويقدم شكواه
وقد تحضر حاجة كبيرة تشتكي أن الأولاد واصلوا اللعب وهي تعبر الطريق "وكتحوها بالتراب و قرب يضربوها بالكورة" ومن يذكر اسمه يطلب منه إحضار جميع من كانوا معه ويخرج هؤلاء من الطابور ويقفوا أمام الجميع ثم يلقي الناظر أو ضابط الطابور خطبة عن الأخلاق والسلوك الحميد المطلوب من التلميذ حيث يجب على الجميع التوقف عن لعب الكرة حتى يمر الكبير أو الراكب أو الأبقار أو الغنم ثم يواصلون اللعب
تبدأ حفلة الجلد عندما يصيح الناظر" أربعة كبار" !! وعادة يخرج هؤلاء من طابور سنة رابعة وهم قوم أدمنوا الإعادة فكل فصل عندهم سنتين أو ثلاثة حيث يمسك كل واحد منهم بطرف يد أو رجل ثم يشد أحدهم الجلابية حتى لا تشكل ممتص جلدات ( lash absorber) ويكون الناظر قد خرج وبيده السوط إن لم يتمكن من الحصول على مجموعة من مطارق الحنة الطرية ( لا أذاقكم الله لسعاتها!!) ثم تسمع صياحا وتشاهد مرصعة و الزبانية يحكمون الشد والمسك حتى يكمل المدرس أو الناظر العدد المحدد لكل تلميذ من هؤلاء المشاغبين!! خمسة جلدات أو عشرة حسب الجرم أو الجريرة
وقد يكون السبب غريبا وهو حضور حفلة عرس (وقديما كان يقال له بيت اللعبة) فإياك إياك أن تشاهد في حفلة عرس لأنك صباحك سيكون صياحا و مرصعة تحت وقع السياط ومطارق الحنة
وبعدها ينده على كل فصل بالدور "أولى الفصل" فيسير الطابور بانضباط وانتظام والكل معلق شنطته على كتفه ويحمد الله في سره أنه أمس لم يلعب كرة مع الجماعة إياهم أو أن والده قد أرسله لإحضار قش للعجول أو علوق للحمار وإلا كان الآن !!
ثم تبدأ الحصة الأولى.
ولنا عودة لمطارق الحنة مع التسميع تسميع الأناشيد و القرآن و الحساب الإملائي وغيرها!!