.::||[ آخر المشاركات ]||::.
كتب صديق عبد الهادي: بعض قضايا... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 10236 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 9051 ]       »     بمزيد من الحزن والأسى تنعى منت... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4339 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4019 ]       »     كتب صديق عبد الهادي: وما الذي ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 13261 ]       »     من الواتساب: أقوال منسوبة للشي... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 5014 ]       »     تنعي منتديات وادي شعير المغفور... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 4502 ]       »     الراكوبة: لجنة للتحقيق في بيع ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 2 - عدد المشاهدات : 9502 ]       »     الراكوبة: تكوين لجنة تمهيدية ل... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 6986 ]       »     الراكوبة: محافظ مشروع الجزيرة ... [ الكاتب : عمر محمد الأمين - آخر الردود : عمر محمد الأمين - عدد الردود : 2 - عدد المشاهدات : 8851 ]       »    



الإهداءات

العودة   منتديات وادي شعير الأقسام العامة منتدى السياسة والفكر والأدب
منوعات المجموعات مشاركات اليوم البحث

إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.64 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي عبدالرحمن علي طه(1901-...) نحو فلسفة تربوية وطنية حديثة (الحلقة الثانية) حيدر إبراهيم
قديم بتاريخ : 01-17-2015 الساعة : 09:36 AM

عبدالرحمن علي طه(1901-...) نحو فلسفة تربوية وطنية حديثة (الحلقة الثانية)
حيدر إبراهيم علي

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

مثلت إعادة غزو السودان وتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي عام1898م مرحلة جديدة ادخلته في اقتصاديات السوق العالمية وكشفته للعالم ليتأثر به ولو بقدر محدود. فلقد أنجز البريطانيون عملية إعادة احتلال السودان بنجاح. ولكن المسألة التي سرعان ما حيرتهم ،وظلت دون حل هي: ماذا يٌعمل به ؟ ودارت نقاشات حول الجدوى الاقتصادية والاستراتيجية، ويبدو أن جدواها الاستراتيجية كانت أكبر من الاقتصادية. وكان من البديهي أنه لن يترك لحاله لأن ذلك سيظهر ان الحملة والنجاح الذي حققته كان ضربا من العبث .كما كان سيترك مصر مرة اخري بدون حماية وفي خطر اولا من ناحية أمن حدودها الجنوبية، وثانيا من عدم تأمين احتياجاتها المائية التي لا يمكن ان تعيش بدونها، وربما ادي ذلك لاحتمال اعادة غزو السودان مستقبلا. ولكن في أول تقرير كتشنر1899 يقول:- "إن ما قام به الدراويش من استئصال كلي لنظام الحكم القديم قد هيأ الفرصة لبدء إدارة جديدة أكثر انسجاما مع حاجات السودان". وهذا يعني أن بعض البريطانيين، رأوا في السودان صفحة بيضاء يمكن أن يخطوا عليها التجارب التي يريدون. ولكن حسب (بيتر وودوارد):"...الامبريالية خلقت دولة بمعني جهاز حكومي، ولكنها جعلتها أيضا أقل من دولة لأنها مستعمرة، أي تابعة بشكل كلي لسلطة أخرى- وفي نفس الوقت هي ليست دولة/ امة بأي معنى، والتي تعني في مفهومها الفضفاض، الدولة الأكثر تطورية وبالتالي الأكثر مقبولية..بدلا من ذلك هي دولة مفروضة واجنبية،ونسبيا هي بناء تم بطريقة فجائية.. بناء مصطنع في أساسه، علي الأقل من وجهة نظر المجتمع المحلي".(كتاب: السودان- الدولة المضطربة 1898-1989.ترجمة محمد علي جادين، جامعة أم درمان الأهلية،2002:12(.
يسمي(محمد المكي إبراهيم)في تصنيفه لأجيال تلك الفترة: المهزمون، ورثة الهزيمة، واحفاد الهزيمة. ولكن الهزيمة العسكرية تركت أثريين حضاريين أو ثقافيين هامين الأول أنها وضعت: "نهاية مفاجئة للتأثير المهدوي علي الثقافة السودانية، ذلك التأثير الذي يبدو كأنما وقف قبل الأوان،،وقبل أن تتبلور انجازاته في شكل حضاري متميز السمات". أما الأثر الآخر الهام:" هو انفتاح أبواب السودان للحضارة الغربية والحماس الذي قوبلت به من أنصارها وأعدائها في جيل المهدويين المهزومين، ولكن الأثر الباقي والأهم هو الانبهار الذي هبط علي الجماهير السودانية".( الفكر السوداني أصوله وتطوره.الخرطوم،1989:40).

كانت هذه بداية المعركة بين الحداثة أو بالأصح التحديث مع التقليدية والمحافظة، والتي لم تتوقف حتي اليوم. وهي بلغة اجتماعية-اقتصادية ،قد أخذت في السودان شكل الصراع بين نخبة الافندية أو المصطلح السياسي لها :القوى الحديثة؛ مقابل الطائفية، رجال الدين، والإدارة الأهلية، وسكان الريف، والبدو، أو القوى التقليدية. وهي صورة تكررت في العالم العربي في شكل الصراع بين العلماء أو الفقهاء والافندية. وقد تعثرت كل محاولات دمج المؤسسة الدينية ضمن القوى الحديثة،لفك الاشتباك. فقد تعثرت دعوات الإصلاح الديني، وأخيرا خطوات تجديد الخطاب الديني. وفي هذا السياق يمكن فهم فلسفة الاستاذ(عبدالرحمن علي طه)التربوية ومواقفه من التعليم. فقد رأي في تربية حديثه، وتعليم متطور في مناهجه، وطرائقه، وأغراضه. وكان مثل هذا التعليم يمثل قطيعة مع تعليم الخلوة التقليدي القائم علي الحفظ والتلقين والعقوبة(ليك اللحم ولينا العضم).وكان التحدي الذي واجه الاستاذ كيف يلج عالم الحداثة دون أن يكون ذلك علي حساب التقاليد والعادات والتي صارت في أحوال كثيرة مترادفة مع العقيدة والأخلاق؟ كانت هذه مقاربة فلسفته التربوية، وسبب ميله للريف وتجربة بخت الرضا. وقد كانت تجربة بكرا منحته القدرة علي الحركة والتجريب والحرية. وقد وقاه هذا الاختيار شرور الدوقمائية والتعصب والجمود والتقليد الأعمي، فكسب نفسه في النهاية. فقد كانت بالفعل كما يقول عنوان مقال لأحد أبنائها المخلصين د.محمد خير عثمان:"بخت الرضا..تربية بلا حدود".وهي فعلا بلا حدود: لا حدود بين النظرية والتطبيق،أو بين الفكرة والممارسة أو بين القناعة والسلوك..لاحدود بين المدرسة والمجتمع ،لا حدود بين التربية المؤقتة والتربية المستمرة، أو التربية المبرمجة والمخططة مقابل التربية العفوية والتلقائية". ويكتب في مناسبة أخرى، أن بخت الرضا ليست تربية رافضة بل كانت تجربة توفيقية.رغم أنها رفضت طرق الخلوة من حيث التركيز علي الحفظ والتلقين والاستظهار بينما انطلقت بخت الرضا من شعار التعليم بالعمل والخبرة والتحليل والاستنباط. ويقول بأن بخت الرضا لم تكن لها نظرية تربوية بالمعنى الضيق لهذا المصطلح وإنما كانت لها "توجهات تربوية" تقوم علي مبدأ واقعي، وكانت البيئة الريفية السودانية هي مرجعيتها.(محاضرة في عيد الاستقلال قدمه في النادي السوداني بمسقط،يناير1994).وهو يقصد لم يكن لها نموذجا ثابتا تقلده، لأن هذه التوجهات التي ذكرها تمثل في حد ذاتها نظرية متكاملة.
يشير الاستاذ في ورقة علمية قدمها لجامعة كولمبيا بنيويورك عام1949 إلي فلسفته التربوية التي تفتح الامكانيات لإنتاج النفوس العظيمة والقادة الحكماء، يقول:" أننا ندرك أن شعبنا يحتاج أكثر من أي شيء آخر إلي قادة حكماء يتحلون بالنزاهة والشجاعة. أننا لا نقدر علي اقامة نظام لإنتاج النفوس العظيمة. ولكن بإمكاننا ابتداع نظام يتيح للعظمة الظهور ويشجعها علي ذلك، ولا يكبلها بالضيق المميت منهج سيء الإعداد. هل أنا علي حق؟ أم هل يجب أن نتوسع في انتشار التعليم بالرغم من ان فقرنا سيجعل هذا التوسع ضئيلا؟ هل يجب تحريك الخط الوسط بين الكم والكيف في اتجاه الكم أكثر مما اقترحه أنا؟"(أوراق...ص54).

كان(قريفث)و الاستاذ منفتحين علي تجارب العالم التربوية بوعى وانتقائية عملية ونقدية. ففي رد ل(قريفث) علي بعض النقد الخاص بأنهم نقلوا تجارب الآخرين، يقول: "لم لا نقتبس من غيرنا ونوفر المال الذي ننفقه علي التجارب ليصرف علي زيادة عدد المدارس؟ ونحن نأخذ المادة والطرقة من غيرنا ونستفيد من خبرتهم وأبحاثهم في علم النفس واختبار الذكاء وطرق التدريس وفروع المعرفة المختلفة والأفكار الجديدة. وهذا شئ طبيعي لأن المبادئ التربوية عالمية تصلح لكل زمان ومكان". واضاف انه ما من أمة تريد تنشئة جيل قوي وثاب تنقل ما عند الآخرين من فنون التربية بلا وعى متجاهلة اختلاف المحيط الطبيعي والاجتماعي، فاختلاف ظروف كل قطر يجعل الاختلاف علي التفاصيل أمرا لابد منه.(فدوى...،ص124).وهذه فكرة الاصل والعصر او التراث والمعاصرة، تأتينا من خواجة وعمليا. وهذا ما قاله الاستاذ في خطاب لوزير التربية والتعليم(حسن عوض الله) ردا علي دعوة للمشاركة في مؤتمر لتطوير المناهج:" وما من شك أن إعادة النظر في مناهج الدراسة من حين لآخر،تأخذ به جميع الدول وخاصة الناشئة منها، فهي لا تدخر وسعا في الانتساب للمؤتمرات العالمية، وفي زيارة الأقطار الأخرى للتعرف علي مناهج الدراسة المستعملة في مدارسها، والوقوف علي كل ما يمت بصلة لتطبيق تلك المناهج كطرق التدريس، والكتب المقررة لكل مادة، والكتب المعدة للتلاميذ، والاهتمام بتخريج المدرسين والعناية بأمرهم بعد التخرج في متابعة نشاطهم بالفرق التجديدية".(أوراق..،ص188).وفي نفس الخطاب يذكره "أن العلم لا يعرف وطنا".
طرح الاستاذ الموجهات العامة لنظريته التربوية ، وهي كما قال عنها: "الاهداف والأغراض التي ترمي لتحقيقها مناهج التعليم الأولي هي نفس الأغراض والأهداف العالمية الثابتة".وقد لخصها فيما يلي:-
1- استعمال الفكر وترك الاستظهار الذي يميت العقل والقلب معا.
2- التربية الخُلقية بطريقة عملية.
3- التربية الوطنية بطريقة عملية.
4- الاستفادة من علم النفس في تطبيق الأصول المتقدمة بالطرق التي تتمشي مع ميول الطفل وغرائزه: التفسير القصصي، التمثيل، الزيارات الفعلية، تدوين الملاحظات...الخ.
5- ومن ثم إثارة الاهتمام بالدرس والتحصيل.(المصدر السابق،ص189).

نلاحظ تكرار وتأكيد مقولة "طريقة عملية" ويقصد بها العلم النافع. وكان الرسول الكريم يقول دائما أنه يخشي علي أمته من علم لا ينفع أو من عالم يضلها بعلمه. ومن هنا جاء اختلاف الاستاذ عن "الحداثيين"المرتكزين علي الإيديولوجيات والتنظير المجرد، وفي نفس الوقت – طبعا - مع المحافظين والتقليديين الحريصين علي استمرار الأمر الواقع مخلدا. فقد تميز الاستاذ علي كثير من اليساريين والشيوعيين والتقدميين ،الداعين للتغيير بل الثورة. فقد ظل هؤلاء مدينيين أو حضرين، ميالين لحياة البورجوازية الصغيرة في المدن رغم الشعارات التي تعلن الانحياز للطبقات الكادحة. ولكنهم اهتموا بالنواحي التنظيمية مثل تكوين الاتحادات والنقابات. وهو هدف مطلوب في عملية التغيير، ولكنها غالبا ما تركز علي النضال السياسوي والمطلبي.وقد قام الاستاذ "الليبرالي"بمهام أصحاب الإيديولولوجيات الكبري حين اهتم بحملات محو الامية، وتعليم الكبار "كل واحد يعلم واحد"، وبالتعليم المرتبط بالعمل الزراعي، وتحسين أحوال الريف. فقد أراد "مركسة" الواقع، فالماركسية الحقيقية هي دراسة الواقع الفعلي،وفهمه جيدا، ثم الخروج بقوانين اجتماعية نابعة منه نفسه وليس من أذهاننا. وهذا ما فعله الاستاذ متفوقا علي اليساريين والتقدميين والذين عكسوا الأمر تماما. فقد حاولوا إدخال الواقع في الإيديولوجيا الجاهزة مكتفين بكبسولة المراحل التاريخية الخمس لتحليل التاريخ والمجتمع. فحملة محو الامية كان الأجدر أن يتبناها اليساريون والتقدميون في الخمسينيات والستينيات، ولكنهم كانوا مشغولين بنظريات الصراع الطبقي، والمجادلة حول وضعية البورجوازية الصغيرة والكبيرة. مثل هذه الحملة كانت ستقف سدا منيعا أمام الفكر الظلامي في الريف ،وبالتالي استحالة أن تفرض نخبة إسلاموية مشروعها المتخلف. وقد كان (عبدالرحمن علي طه)يستخدم بعفوية نفس لغتنا التي نستعرض بها تقدميتنا، ونستخدمها بتقعر وافتعال. ففي حديث له عن التدريب الخلقي، يقول:" لم يكن من الصعب التفكير في أنشطة في مدارسنا تتيح فرصا لتطور الشخصية، وإن كان ابتكار هذه الانشطة يبدو صعبا أحيانا. وقد مضي بعض الوقت قبل أن ندرك الصفات الأخلاقية اللازمة إذا كان لبلادنا أن تصبح حديثة وديمقراطية."(أوراق...ص57).

تفوق الاستاذ علي الفكر والتنظيم الإسلامويين في السودان، واللذان اختلفا حول أولوية السلطة أم التربية سابقة عليها في تغيير المجتمع؟ فقد كانت نظريته قائمة علي التربية أولا مع التركيز علي التدريب الخلقي. وقد انحاز الاسلامويون للسلطة أولا ثم تقوم هي بفرض التربية والأخلاق التي تقررها سياسيا. وكان(الترابي)يزجر من يقول بأولوية التربية:" كذلك لا مجال في سيلق دين التوحيد للمراء البعيد في خيار تقديم التربية الأخلاقية الاجتماعية بسياسة الدعوة أو الإصلاح التنفيذي المباشر بقوة السلطان، متي تمكنت منها حركة الإسلام. أما أكثر الذين ينادون بالتربية دون القانون بحجة التمهيد والتوفيق فإنما يريدون تجريد حافز القرآن من الاستنصار بوازع السلطان وعزل الدين عن الحكم، ولا خير في تربية مزعومة تعطل الحكم بما أنزل الله".(كتاب: نظرات في الفقه السياسي. الناشر الشركة العالمية لخدمات الإعلام(بدون تاريخ )ص56).وكانت النتيجة أنهم أقاموا سلطة ثيوقراطية شمولية، فاغرقوا البلاد في الفساد والضلالة والانحلال: دولة اضاعت الأخلاق والتربية ومعهما الدين، رغم الارهاب والقطع من خلاف وجلد الفتيات في الاماكن العامة. وبقي لنا مشروع دولة بلا أخلاق ولا دين، وفيها يمكن التحلل من كل شئ مع سيادة فقه الضرورة.

من ناحية أخرى، أجمع الأفندية باختلاف إيديولوجياتهم علي رفض ارتباط التعليم الأولي بالريف والقرية، من منطلقات متباينة .بينما كان مؤسسو بخت الرضا يؤمنون بأن المدرسين يجب أن يتدربوا في وسط ريفي يبعث فيهم الاهتمام بالحياة الريفية وهي الحياة التي تحياها الأغلبية العظمى من سكان السودان.(فيصل عبدالرحمن، أوراق...،ص22).ومن جملة النقد الموجه لبخت الرضا أن إنشاء المعهد علي أسس ريفية بحتة لا ينظر الي المستقبل الذي يمكن أن يتطور إليه السودان وبعضهم قال بلغة أخري أن الاتجاه الريفي هو فخ استعماري يصرف السودان عن الاتجاه نحو الصناعة! ورأي رجال المعهد العلمي أن بخت الرضا تريد القضاء علي الخلاوي.(فدوى...،ص125).وقد تعرض المعلم(جوليوس نايريري)في تنزانيا لنفس المحنة، فكتب :" ولمّا كان الريف هو مجتمع الناس حيث يعيشون ويعملون، فإنه يتحتم علينا بترقية الحياة فيه ولكن هذا لا يعني أنه لن تقوم لنا صناعات في المستقبل القريب، ففي تنزانيا اليوم بعض الصناعات وسوف تشهد هذه الصناعات مزيدا من التوسع في المستقبل. ولكننا نجافي الواقع كثيرا لو خيل لنا أن أكثر من نسبة ضئيلة من المواطنين ستعيش في مدن تتوافر لهم فيها فرص العمل في منشئات صناعية حديثة. ومن هنا يتحتم علينا أن نجعل من القرى مواقع أفضل للحياة، تتهيأ فيها للجماهير الفرص لتحقيق ما تنشده من رفاهية وهناء".(التربية من أجل الاعتماد علي النفس. ترجمة علي النصري حمزة.ا لخرطوم،دار نشر جامعة الخرطوم،1978:17).فقد كان يري في الاهتمام بالريف أساس أي تنمية حقيقية في الدول حديثة الاستقلال، ولذلك طالب بأن يكون التعليم ريفيا وحديثا واشتراكيا في آن واحد.

ويورد أحد التربويين ملاحظة هامة ذات مدلولات عدة حين يكتب :" وعلي الرغم من أن أغلب الطلاب كانوا من بيئة ريفية مجاورة، فإنه لم يكن من اليسير ادخال وتعميم أهداف التربية الريفية. ذلك لأن معظم المدرسين السودانيين لم يكونوا ميالين للحياة الريفية، وذلك فضلا عن أن الرأي العام السوداني لم يحبذ اتجاه التعليم في هذا المنحى"(محمد عمر بشير ص200).ومرة أخرى يكتب(نايريري)عن هذه الظاهرة بصورة أعمق، مذكرا بأن:" تلاميذنا إنما يتعلمون الاستخفاف حتي علي آبائهم بدعوى أنهم جهلاء وغير عصريين وما ذلك إلا لأن نظامنا التعليمي الراهن يخلو مما يمكن أن يوحي للتلاميذ بأنهم يستطيعون أن يتعلموا من كبارهم شيئا ذا أهمية في الزراعة. ولهذا فإن هؤلاء الصغار يتشربون من ذويهم قبل أن يذهبوا للمدرسة معتقدات السحر ولا يتعلمون منهم خواص الاعشاب المحلية. ويتشربون التابو ولا يتعلمون طرق طهي الوجبات التقليدية ذات القيمة الغذائية، فإذا ما ذهبوا للمدرسة تعلموا فيها معارف عديمة الصلة بالحياة الزراعية- إنهم في الواقع، يتلقون أسوأ ما في النظامين".(مصدر سابق،ص25). ويقول(قريفث)في وداع الاستاذ(عثمان محجوب)الذي كلف بافتتاح فرع لمعهد التربية في الدلنج:"...ليس من الخدمة الفريدة في نوعها التي اسداها عثمان أفندي محجوب-هي تدريب أجيال طريقة الحساب(في إمكان آخرين أن يفعلوا ذلك)ولكن هي شغفه بالزراعة وبالحياة الريفية في وقت كان كل المدرسين تقريبا بلا استثناء منغمسين في العمل داخل الفصول، ومشغولين بمسرات المدينة".(فدوى،ص134).

كان(قريفث) يعرف صديقه جيدا، ويقرأ دواخله، ويعطيه قيمته الحقيقية، لذلك أدرك كيف يفكر الاستاذ. فكتب في وداعه:" وإذا كان لابد من اختيار شيء بارز في مساهمته فأني أحسب أن الفترة التي كانت فيها مسألة الحرية في المدرسة مضطربة من حيث تفهم النظام والسلوك، فإن عبدالرحمن افندي استطاع- بفكر ثاقب يحسن التوازن-أن يؤثر بشكل ملحوظ في أجيال متتالية من مدرسي المدارس الأولية في طور خطير من تدريبهم وبدء حياتهم العملية، وسيزداد تقديرنا لكل ذلك بمرور الزمن حين يضطلع هؤلاء المدرسون بمراكز ذات مسؤولية".(فدوى...،مصدر سابق،ص13).وهنا التقط الفكرة المفتاحية في فلسفة الأستاذ: مسألة الحرية. ثم أدرك الأستاذ التناقض الجوهري بين الحرية والجهل. ولذلك علق( الوزير عبدالرحمن علي طه)-بذكاء وحكمة نادرين- عندما هم بقص الشريط التقليدي في افتتاح مدرسة (خورطقت)الثانوية في 28 يناير 1950، لوح بالمقص ثم قال:" اليوم أقص رقبة الجهل في غرب السودان".(أوراق...،ص91)وهو سعيد فقد أكرمه القدر ولم يعش حتي يري الجهل والتعصب وهو يقص رقاب أهل غرب السودان.

(نواصل)
[email protected]
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ملحوظة:
لم أقصد في المقال السابق التقليل من قيمة ابداع خليل فرح وتوفيق صالح جبريل الذي لا أمل سماع رائعته كل لتبعدني عن أي ضجر غادر. ولكن أفرق بين مستويين: بين إبداع رائع جماليا وفنيا(استطيقيا) فقط، وبين أن تتحول المعاني التي يخلقها الابداع إلي نمط حياة وثقافة قعدات ورؤية.وقد أضر هذا النمط ومازال يضر بمبدعي السودان ويقضي عليهم فيزيقييا أو روحيا- مبكرا. وقد كان (توفيق)نفسه أبرز هؤلاء الضحايا.



عمر محمد الأمين
:: عضو نشـــط ::
رقم العضوية : 3
الإنتساب : May 2010
المشاركات : 3,281
بمعدل : 0.64 يوميا

عمر محمد الأمين غير متواجد حالياً عرض البوم صور عمر محمد الأمين



  مشاركة رقم : 2  
كاتب الموضوع : عمر محمد الأمين المنتدى : منتدى السياسة والفكر والأدب
افتراضي
قديم بتاريخ : 01-22-2015 الساعة : 10:52 AM

عبدالرحمن علي طه(1901-...) من أجل ديمقراطية عملية (الحلقة الثالثة والأخيرة)

حيدر إبراهيم علي


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
تُظهر آراء الاستاذ الرافضة للحفظ والتلقين والاستظهار، موقف تحديثيا واضحا في فلسفته التربوية. فنحن نلاحظ في كتاباته وتقارير اللجان التي يشارك فيها، تكرار تأكيدا لعبارات مثل:
"اصلاح المناهج من استظهار رتيب إلي متعة حافزة، ومن جمود يميت القلب إلي تحلل من القديم القاتل، أو "من ركود في الفكر السقيم إلي تفكير مستقيم". أو: "استعمال الفكر وترك الاستظهار الذي يميت العقل والقلب معا". وفي تقرير لأحد اللجان نقرأ: "إن أوضح خطأ معترف به من قبل الكافة، في نظم التربية والتعليم السودانية، في الوقت الراهن، هو الميل إلي حفظ الدروس بدون فهم، والنظر إلي التعليم باعتباره تحصيلا لنظريات غير علمية، أو تمارين لا تمت للحياة بان ليس للمتعلمين السودانيين أي قدرات علي الخلق وبُعد النظر والتكيّف مع الظروف".

هنا يلتقي مباشرة وبتطابق مع مفكر تربوي شغل الدنيا هو البرازيلي( باولو فريري) والذي تناهز مكانته التربوية مكانة أقرانه من مفكري الغرب . ولكن قد غلب علي الاستاذ التطبيق والممارسة، لذلك لم يصغ أفكاره نظريا بطريقة(فريري).بينما سار في نفس خط الاستاذ الرافض للتلقين، وقد صك مصطلحين لنوعين من التعليم، هما: التعليم النقدي والحواري مقابل التلقيني أو البنكي. فالمنهج الحواري يعني احترام الآخر والثقة المتبادلة، والمقصود منه ايقاظ كل حواس المتعلم ،و في تفاعل مع عقل متفتح علي الكون والانسان، ويسميها تربية الحوار والتساؤل، أو تعليم القهر والاستئناس مقابل تعليم التحرير والتجديد. وبالنسبة ل (فريري) فإن الحرية شرط كل تعليم حقيقي، سواء أكان التحرير يخص المتعلم أو المعلم أو المجتمع بأكمله ، ولذا كانت وصية فريري الأخيرة تجمع بين الحرية والأمل.

بالنسبة ل(باولو فريري) لا يوجد تعليم محايد، فالتعليم هو أمّا للتدجين أو للحرية؛ تعليم الترويض أو تعليم الحرية. فالتعليم في النهاية عملية ثقافية في سبيل الحرية. وكيف يمكن أن نجعل للتعليم معنى بطريقة تجعله نقديا ونأمل أن يكون تحريريا؟ فقد قمعت نظرية التعليم التقليدية اسئلة علاقات المعرفة بالسلطة والهيمنة. ويبقي الدور الذي يلعبه المعلم والمتعلم الثوريين هو تحدي المعرفة المفروضة هذه، وعرضها علي التساؤل والشك. وذلك عن طريق الحوار لتفكيك التكوينات البيروقراطية القائمة ولمنع تكريس المصالح الثابتة. ويحارب(فريري) ما يسميها ثقافة الصمت.(silence culture) فالنظام الاجتماعي الفقير الذي يعيش فيه الفلاحون ولّد نوعا من التربية القهرية وهو مصدر ثقافة الصمت. وكل عملية تربوية تعني مفهوما (رؤية) للإنسان والعالم. وتعلمنا التجربة عدم الافتراض ان الواضح دائما هو مفهوم جيدا. لذلك أي ممارسة تعليمية تبدأ من موقف نظري من جانب المعلم، وهذا الموقف يتضمن أو بوضوح-تفسير الانسان والعالم. (اقتباسات من الذاكرة).

ظل الاستاذ يبحث عن تربية الحرية والتعليم النقدي، فهداه ذلك الي ما أسماه التدريب الخلقي وابتكار الأنشطة التي توفر الفرص لنماء الشخصية، ولذلك اعطاها حيزا معتبرا في مناهج بخت الرضا .وفي خطاب بخت الرضا العدد السابع عشر الصادر في 25 سبتمبر1944 نقرأ:" وإني عندما استعمل كلمة(الأخلاق) لا أفكر في معناها الضيق الذي كان يطلقه الناس عليها هنا. حين يصفون من كلمة أخلاقه، بأنه الشخص الذي لا يتعاطى الخمر ولا يجلس إلي مناضد الميسر ولا يتردد إلي بيوت المومسات، ولكني أفكر في تلك الصفات التي لا يمكن بدونها أن تقوم أية قائمة للقطر الذي يصبو لحياة طامحة حديثة إذا تأملنا ما في الحياة الحديثة من تكييف لابد منه لمسايرة بقية الشعوب المتحضرة". ويعلق أحد رواد بخت الرضا(سرالختم الخليفة)متوسعا ومبينا أكثر:" فنحن اليوم أحوج ما نكون من أي وقت مضى إلي تربية سياسية ووطنية صحيحة.. ونحن اليوم أحوج ما نكون من أي وقت مضى إلي البذل والتضحية في سبيل تقدم بلادنا وازدهارها.. والبذل لا يمكن أن يصدر إلا من فرد قد تحلي بصفات خلقية خاصة.. والتضحية لا يمكن أن تقوم إلا علي أساس الأخلاق الفاضلة.. ورحم الله سعدا حين قال: لسنا في حاجة إلي كثير من العلم ولكننا في حاجة إلي كثير من الأخلاق الفاضلة".(ص92 من كتاب سيرة ومسيرة2012).والأخلاق في نظرة بخت الرضا الحديثة، تشمل صفات مثل: الابتكار، والاعتماد علي النفس، وتحمل المشاق بروح المرح والدعابة، وحسن التصرف، والمثابرة، والتسامح، وأي صفات أخري تمكن الفرد من أن يلعب دوره كاملا كمواطن مخلص وصالح.
جاول الاستاذ التضييق علي الجهل وسد كل الثغرات التي قد يتسرب منها للمجتمع. لذلك كان اهتمامه بتعليم الكبار. فقد بدأت الفكرة عام1938 ولكن اندلاع الحرب أرجأ التنفيذ حتي عام1944،وتقرر القيام بعمل تجريبي في ام جر والفطيسة في النيل الابيض. وتقوم الفكرة علي فلسفة تربوية تهدف إلي:" خلق صفات مساعدة النفس والابتكار بين القرويين. وأن يزود البارزين منهم بمعلومات فنية في الصحة وطرق الزراعة الحديثة. وأن نجعلهم - نساء ورجالا- يدركون مدى التغييرات التي طرأت علي طريقة معيشتهم. وعلي الجملة أن نهيئ لهم الفرصة للقيام بالمسؤولية، وأن ننمي فيهم ملكة الابتكار".(أوراق...،ص102).وفي رد علي تساؤلات في الجمعية التشريعية عن عمل ضباط تعليم الكبار لتحقيق تلك الأغراض. أجاب بأنه ليس من السهل تلخيص أعمالهم المتعددة، ولكنها تشمل:" محو الامية وتشجيع كرة القدم والكشافة وارشاد القرويين في اعمال مجالس القرى وتشجيعهم علي القيام ببعض الاعمال الاخرى كحفر الآبار وانشاء الدكاكين التعاونية. أمّا عمل النساء فيتلخص في الارشاد الصحي والشؤون المنزلية".(ص103).ويعبر للأعضاء عن قناعاته بهذا المشروع ويشاركه في ذلك كل من اشترك في عمل يتصل بالنهوض بالجزيرة، ويضيف:" ان لهذا العمل أكبر الأثر في رفع المستوى الثقافي بين سكان القرى وإني مهتم بتعميمه في كل أنحاء الجزيرة وفيما بعد في بعض أجزاء القطر الأخرى. غير أن قلة المدرسين المدربين تجعل تعليم الكبار يسير ببطء لعدة سنين".(نفس المصدر السابق). ويتحدث الاستاذ عن التركيز علي حملات محو الامية واندية الصبيان ومكتب النشر. فقد بدأت الحملة في الدويم عام1948 ثم امتدت إلي المدن الثلاث وبعض أجزاء الجزيرة وقد وجدت اقبالا حارا في كل مكان.ويورد ملاحظة هامة وعميقة عن مشكلة الامية ويقدم الحلول ايضا. فالامي يتعلم القراءة والكتابة بسرعة ولكن مدة احتفاظه بهذه المعرفة يتوقف علي توفير مادة القراءة له. وهنا يأتي دور مكتب النشر الذي والي اصدار الكتب والكتيبات الصغيرة بكثرة، يضاف لذلك مجلة(الصبيان).وهو يري أن تنظيم حملات محو الامية أيسر بكثير من نشر تعليم الكبار ،وكان أن يتعشم "أن نتمكن من تنظيم حملات في كل المدن الكبيرة قريبا". وكان هذا دور مؤتمر الخريجين المفترض ولكنه كان مشغولا بمعارك "الفيليين" و"الشوقيين" الدونكيشوتية. ويقول: "ومؤخرا قمنا بتجريب شكل آخر من التعليم غير مكلف. ألا وهو طريقة(لوباخ) لمحو الأمية، وهي: كل واحد يعلم واحد، لقد صادفت هذه التجربة نجاحا مشجعا للغاية ونعمل الآن علي التوسع فيها".(أوراق...،ص54).
أنشئ مكتب النشر في عام 1946 كجزء من معهد التربية وعين عوض ساتي مساعدا للمدير البريطاني روبن هودجكن وضمت هيئة التحرير:جمال محمد أحمد، وفخر الدين محمد، وبشير محمد سعيد. وكانت مهمة المكتب الرئيسية هي انتاج الكتب الصالحة للاستعمال في حملة تعليم الكبار بالاضافة للكتب المدرسية التي تصدرها بخت الرضا، وكذلك كتب مواصلة القراءة للذين ينقطعون عن الدراسة بعد المرحلة الأولية. وكان يمكن لمكتب النشر الي دار نشر عريقة مثل اوكسفورد أو(Penguin) أو حتي دار المعارف المصري. ولكن عمل تخريب و"تشليع" المشروع، عجلت بوأده.

ويقول الاستاذ في خطاب بخت الرضا الثامن عشر ة بضرورة توجيه المجتمعات الريفية للنهوض بشؤونها. ويشير لتجربة تقوم بها بخت الرضا بالاشتراك مع بعض المصالح الحكومية بتجربة في ترقية الحياة الريفية. في مشرعين بالنيل الابيض: أم جر والفطيسة. ويزرع القطن والذرة وكانوا قبل ذلك يعتمدون علي الماشية والزراعة المطرية والجروف التي يغمرها الفيضان. وقد مثل المشروع نقلة بالنسبة لهم وتبذل المصالح الحكومية المساعي لترقية حياة السكان. دخلوا في الاقتصاد النقدي لأن المشروع يدر عليهم دخلا أكثر من السابق، وهناك المساعي الطبية مثل مكافحة الناموس لتحسين الصحة، وفتحت مدرسة للبنين ستتلوها مدرسة للبنات. ويقول: "ولكن هذه الخدمات لا تكفي وحدها للتقدم. بل ان حركة التقدم ستكون مشلولة إذا لم تسُد بين الاهالي العزيمة الصادقة علي خدمة أنفسهم. ولكي ننمي في الناس العزيمة علي خدمة أنفسهم لابد من شيئين:

1- تزويد القرويين بمعلومات أكثر عن التغيير الذي يعتري حياتهم وعن الطرق التي يمكن أن تُحسن بها.
2- تكاتف موظفي المصالح الحكومية المختلفة وتعاونهم مع القرويين بتهيئة الفرص والتشجيع لبلوغ التقدم المنشود.
هذه قيم المجتمع المدني وأسسه، أن يقوم المواطنون بمهام مكملة لوظائف الدولة. كما أن فكرة "العون الذاتي" التي ابتذلها نظام(النميري)هي جوهر عمل بخت الرضا حسب خطة الاستاذ. ويهتم كثيرا بروح "المبادرة" رغم أنه لم يستخدم نفس المصطلح.فهو يفسر المقصود بخدمة النفس:" أن يقوم القرويون من تلقاء أنفسهم باشياء كحفر الآبار وتشييد المساجد وبناء الاندية، ولا يعتمدون في ذلك علي سواهم. والاتفاق فيما بينهم علي الكف من المغالاة في المهور وتكاليف الزواج الأخرى،أو علي رفع مستوي النظافة في القرية،أو علي محاسبة أنفسهم لرفع مستوي الزراعة، أو علي إنشاء جمعية للتوفير أو التسليف".(أوراق..،ص105)وهنا يقدم شرحا مباشرا لفكرة المبادرة وأبعادها: "إننا نعلق أهمية كبرى علي عادة البدء في هذه الأشياء بغير مؤثرات خارجية. لأن مثل هذه العادة إذا تمكنت ولو في نفوس القادة، فإن النهضة ستتجه اتجاها آخر حين نجدها لا تعتمد فقط علي حماس موظفي المصالح الحكومية الذين يتعاقبون علي الأرياف، بل يكون الموجه لتلك النهضة هو التفكير الرشيد في المسائل الكبرى والإقدام بجد في الأمور اليسيرة".(نفس المصدر السابق).ويري أن هذه الفكرة ليست بعيدة ولا غريبة عن عادة"النفير". فقد كانت تهدف أو تحقق تهيئة الفرص لخدمة النفس والتعاون وتشجيعها. ولكنها عرضة لأن تقضي عليها القوانين الكثيرة التي تصدرها المصالح الحكومية المختلفة في المناطق التي يراد إصلاحها. ولهذه القوانين أثران:

- إنها تشجع كل موظف علي التفكير قبل كل شيء في تنفيذ قوانين مصلحته ويكون التفكير في الناس الذين يخدمهم ثانويا.
- إن القوانين لا تدع مجالا كبيرا للقرويين أنفسهم ليساهموا في رسم الخطط وتنفيذ تلك الخطط.
ويكتب أنه ليس المقصود تجريد القرى من الخبراء: "ولكن إذا كانت جميع أعمال المصالح الحكومية مقيدة بقوانين عليا، ولم يبق مجال لمساهمة القرويين أنفسهم في اتخاذ القرارات، فإن المجال لن يكون واسعا لخلق صفة خدمة النفس وتثبيتها".(ص105).
هذا وقد تم القاء دروس في الصحة علي سبعة من القرويين في أم جر، وقع عليهم الاختيار ليكونوا مرشدين في قراهم، وعملوا فعلا علي تشجيع القرويين علي العناية بالاحتياطات الصحية. كما تلقي عدد آخر من مشايخ الزراعة دروسا في الزراعة.كما ألقيت دروس في التربية الوطنية استمرت لمدة ثلاثة أسابيع، علي عدد من ذوي المسؤولية أي مشايخ الإدارة ومشايخ الزراعة والمرشدين، وأعضاء في مجلس القرية. وكانت من أهم الدروس تلك التي تضمنت "الطرق التي يمكن أن يثيروا بها اهتمام الناس من مناقشة الأفكار الجديدة والطرق التي يحملونهم بها علي تنفيذ ما يرونه صالحا لمجتمعهم". كما ألقي درسا علي نساء احدي القرى في الصحة والتحسينات المنزلية. وكان علي بخت الرضا مسؤولية دروس التربية الوطنية والمساهمة في مراقبة التجربة. وقد خصصوا لهذا العمل جزءا من خدمات ضباط تعليم الكبار(مكي عباس وحسن أحمد يوسف)وناظر مدرسة أم جر الأولية(الشيخ الطيب إدريس).وكان في الخطة تقديم خدمات للنساء في مجال التحسينات المنزلية وبث التعاليم الصحية. وتخصيص خدمات استاذ بريطاني متخصص في الأعمال اليدوية، تكون مهمته الارشاد لتحسين الصناعات القروية.(ص107).

كان يتوقع سؤالا من نوع: هل كل هذا الذي تقومون به مهما؟ أليس من الأفضل حصر الجهود كلها في تعليم الصغار؟ ويرد:"لا، أن التطورات العظيمة التي حدثت في روسيا والصين وتركيا أحدثها الكبار فاقبلوا علي الأفكار الجديدة وعملوا بها. وانا نجد في كل هذه الاقطار مشاريع عظيمة لتعليم الكبار، وما الذي نقوم به في أم جر سوى تعليم الكبار. وقد ذهبت تركيا إلي حد جعلت عنده التعليم إلزاميا لكل الكبار الذين لم يتجاوزوا الاربعين".(أوراق...،ص107).

تعطي خطاباته الرسمية صورة جيدة عن كيف حوّل فلسفته التربوية الي سياسات تعليمية قابلة للتنفيذ والتطبيق. فقد جاء في الخطاب الذي القاه بصفته وزيرا للمعارف في8 نوفمبر1949 أمام الجمعية التشريعية، حول مشروع التعليم لسنة1949-1956،بان يقدر في نهاية سنة1956 تهيئة التعليم الاولي والأصغر لقرابة40% من تعداد البنين الذين هم في سن التعليم في المديريات الشمالية. ويقول: "لا شك أن الهدف النهائي لوزارتي هو أن تمحو الأمية في السودان كله، وأؤكد للجمعية بأننا سنبذل قصاري جهدنا لتحقيق هذه الغاية، ولكن أية محاولة تهدف في الوقت الحاضر لأكثر من40% لا تكون سياسية عملية".(أوراق..،ص83).فهو لا يميل مثل السياسيين الكذبة لنثر وعود يدري هو قبل غيره استحالة تنفيذها. ولكنه يعد بالممكن، ويقول:". .لذا علينا أن نتأكد من أننا نقدم للتلاميذ في المدارس التي نستطيع فتحها، خير ما يمكن تقديمه من تعليم أي يجب علينا أن نهدف لتحسين المستوى بالرغم من الالحاح والطلبات المعقولة لفتح مدارس أكثر".(نفس المصدر السابق).وأرجع ذلك للحالة المالية في البلاد، ولكن لا يجعل من ذلك مبررا. فهو يطرح سؤال كيف يمكن أن نذلل تلك العقبات؟ يقترح تقليل تكاليف التعليم الأولي معتبرا أن الوسيلة الرئيسية التي تمكننا من بلوغ هذا الهدف هي:" أن نحول التعليم الأولي لسلطات الحكومات المحلية وبذلك يكون من المستطاع اسناد المدارس الأولية والصغرى لتلك السلطات، ورفع مستوى الاخيرة إلي مستوى يقارب مستوى المدارس الأولية ونأمل بهذا الاجراء أن نخفض كثيرا من تكاليف مباني المدارس عندما تسند هذه المسؤولية لعملاء محليين بدلا من اسنادها لمصلحة الاشغال بمستواها الفني العالي، وآمل أن يتم النقل في سنة 1950 في حالة كثير من الادارات المحلية".(أوراق...،ص83-84).وللأستاذ تصور جيد وجلي للحكم اللامركزي في بلد شاسع كالسودان، ولأشكال تقسيم السلطة. ولحسن الحظ تقلد منصب وزير الحكومات المحلية، ولكن انقلاب 17 نوفمبر1958 قطع عليه خططه.

في رد علي سؤال في الجمعية عن خطة الوزارة إنشاء رياض أطفال في المدن الكبيرة حيث يوجد أعداد كبيرة من الأطفال في العام الخامس من العمر، يبدي الاستاذ رأيا موضوعيا وعلميا كعادته. فهو يدرك أهمية وفائدة رياض الأطفال، ولكنه نوع من التعليم كثير التكليف من حيث المصاريف الانشائية والمتكررة والمعدات الكثيرة. هذا علاوة علي "أنه يجب أن تشرف علي روضة الاطفال سيدة مؤهلة ومدربة تدريبا كاملا علي أن يشمل هذا التدريب علم النفس للأطفال".(أوراق...،ص100)ولنا أن نتصور حال رياض الاطفال بعد65 عاما من هذا القول. فقد صارت رياض الاطفال تنافس دكاكين البيع بالقطاعي في الاحياء. فالدولة قد رفعت يدها عن كل ما له صلة بالتنمية والخدمات، ولكن الوزير حين اعرب عن عدم نية الدولة الدخول في هذا المجال، كان له سببه المنطقي والواقعي:" اعتقد أنه ليس هناك ما يبرر تعميم انشاء رياض الاطفال قبل أن نقطع شوطا أكبر من سد حاجة المناطق الريفية للتعليم الاولي. فينبغي أن نقدم المهم علي الأهم أولا ونسير نحو تعميم التعليم الأولي قبل أن نتحول بمواردنا المحدودة لمشروعات مرغوب فيها ولكنها ليست ضرورية". فهو واضح في انحيازه للريف بصدق ووعي، كما أنه شديد العقلانية في تحديد الاولويات.

جاء في الفقرة(24)من مقترحات توسيع وتحسين نظم التعليم في مديريات السودان الشمالية1948-1956:"أن السواد الأعظم من خريجي المدارس الصغرى والأولية يجدون صعوبة في قراءة الجرائد، وأن الكتب التي تصلح لمواصلة تعليمهم وتحسين مستواهم قليلة. لذا فإن الغرض من كتب مواصلة القراءة هو معالجة هذا النقص الخطير. وتتجلي الحاجة إلي هذه الكتب في الانتشار الواسع الذي تحظي به مجلة (الصبيان).ويجري العمل بنجاح في تحسين واخراج أنواع أخرى من كتب مواصلة القراءة. فسلسلة كتب الصغار وسلسلة كتب التعريفة وهي كتب مبسطة جدا تجد اقبالا فائقا. وضمن البحث عن الوحدة القومية في الجنوب يقول: "..أنه مهما كانت الخسائر للثقافة المحلية، فإن اللغة العربية كلغة موحدة ينبغي أن تأخذ الاسبقية علي اللغات المحلية في جنوب السودان".(أوراق...،ص59).لاحظ أنه لم يقل تحل محل اللغات المحلية، ولكن تحدث عن الاسبقية مما يعني امكانية وجود لغات محلية ثانوية إلي جانبها.
تميز الاستاذ بموقف ايجابي ومشجع من التعليم الفني أو الصناعي. فهو يقدم بيانا ضافيا عن انجازات وزارته في هذا المضمار. ويستعرض بنودا مثل تجديد الانشاءات وزيادة عدد الطلاب، وبناء مدارس وسطى صناعية في ام درمان والابيض ومدني. لم يهمل الجنوب في الخطة الاستفادة من المدارس الصناعية التي انشأتها الجمعيات التبشيرية وتدعيمها بإنشاء معاهد صناعية حكومية. وتخرج منها مساعدون فنيون، ومدرسون في المدارس الصناعية،رسامون، وخبراء فن البناء، مدرسو فنون وصناعات، اعمال كتابية ومحاسبة. واتذكر جيدا موقف(محيي الدين صابر)المعادي. ففي الاجتماعات العامة مع المعلمين، كان يخاطب اساتذة المعهد الفني باستفزاز عند نقاش التعليم الفني، قائلا:"طيب،نشوف رأي الاسطوات شنو؟"

كانت فكرة الجمعيات من أهم الوسائل العملية لتطبيق المبادئ الاساسية في مناهج بخت الرضا، مثل: "التدريب الخلي وابتكار الانشطة التي توفر الفرص لنماء الشخصية". وقد صدر كتاب مرجعي للجمعيات مجموعة اسمها: "سلسلة كتب الوطني الحق"(لاحظ هذا عنوان كتاب صادر عام1943)جاء علي الغلاف: الكتاب الأول في الجمعيات داخل المدرسة وخارجها. ارشادات للمبتدئين في الديمقراطية العملية .تأليف .ل.قريفس ومكي عباس، الصور من عمل ج.ب.قرينلو(من رواد كلية الفنون).ويتكون الكتاب من بابين وعدة فصول، تحتوي علي: تقسيم أعمال إدارة الجمعية، كيفية السير في مناقشات الجمعية، واجبات الاعضاء، كيفية اتخاذ القرارات وتنفيذها، ضبط مال الجمعية، كيف ينتخب الاعضاء التنفيذيون، آداب الاجتماعات، الاقليات وغيرها. وورد في الكتاب أنه اذا شعر بعض الاعضاء بأن اللجنة التنفيذية قد بدرت منها أشياء جعلت الأعضاء لا يثقون بها، فلهم أن يستدعوا بعدم الثقة فيها.( اوراق...،ص179).وهناك فصل شيق عن: "كيف يستحيل النظام الديمقراطي إلي نظام ديكتاتوري؟". ويمكن مقارنته بكتاب: "الطريق إلي البرلمان" للسيد(اسماعيل الازهري).

*****
أخشي أن يظن البعض أننا أمام انسان غارق في البيروقراطية وجفاف العمل الريفي الخشن. الرجل رطب الروح تستخفه بسمة الطفل في المدرسة، و يستمتع بالأدب ويتذوقه ويطرب له. يكتب (حسن نجيلة)في كتابه الموسوم(ملامح من المجتمع السوداني):"وعلي صفحات الحضارة ينبري له(يقصد للأمين علي مدني ،مؤلف كتاب: أعراس ومآتم)استاذ شاب من خيرة مثقفي الشباب، الاستاذ عبدالرحمن علي طه المدرس بمدرسة أم درمان الابتدائية آنذاك، ويرد عليه موضحا الخطأ في المحاضرة، ويكشف عن الجوانب المشرقة في شعر البنا، ويرد عليه الامين معتدا وتدور بينهما ملحمة في النقد يوقفها السيد حسين شريف رئيس التحرير وقد رآها احتدمت وشطت ولم تأخذ سمتها الموضوعي (حسب رأيه)،ولكنها تركت دويا في مجتمع المثقفين!"(طبعة دار الخرطوم، 1994،ص158).ورغم أنني اقف مع (الامين) في نقده لشعر البنا. ولكن الشاهد هو دور الاستاذ كناقد للأدب ومتذوق للشعر.

****
في الختام ،أكرر القول بأن الأستاذ(عبدالرحمن علي طه)تعرض لكثير من الظلم والغبن، رغم ما قدم للوطن في مجال التربية والتعليم. وهذا طبع قطاع كبير من الانتلجنسيا السودانية، تغطي علي عجزها بالظلم والحسد والاضرار بالمبدعين الذين يكشفون عوراتها. فلأن الأستاذ لم يكن يساريا ولا ام درمانيا وليست لديه شلة أو عصبة تحرق له البخور، ولا حواريون لا ينقطعون عن تمجيده، وليس لديه حزب يعارك باسمه في ميدان الفكر والثقافة. كان معتزلا عن سخف الافندية وفضل الخلا ولا الرفيق الفسل: بخت الرضا ثم أربجي، صارخا فيهم: خذوا دنياكم هذه فقد كانت له دنياه الخصيبة المنتجة الجادة. ويذهب التواطوء بعيدا، لا أدري لماذا لم يحاول أي أستاذ في كليات التربية الكثيرة أن يوجه أحد طلابه أن يكتب رسالة جامعية عن أفكار الأستاذ عبدالرحمن التربوية ولا عن تجربته في بخت الرضا؟
في النهاية، يقول ابن عربي:" رب حاضر غائب وعالم جاهل وحامل للكتاب والسنة ليس معه منها شئ، فانظر فيم طلبته ولمن اردته فانك موقوف عليه ومسؤول عنه ومجازي به".
===
e-mail:[email protected]

إضافة رد



تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


الساعة الآن 10:03 PM بتوقيت مسقط

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
الاتصال بنا شبكة ومنتديات وادي شعير الأرشيف ستايل من تصميم ابو راشد مشرف عام منتديات المودة www.mwadah.com لعرض معلومات الموقع في أليكسا الأعلى